كولونيا ديجنيداد – جـ 1

الجزء الأول
ـــــــــــــــــ

ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عاشت مخاض عسير جداً عشان تقدر تقف على رجلها .. هزيمة عسكرية تبعها هزيمة أخلاقية وإرتباك مجتمعى وفقر شديد .. شخصية هتلر الحماسية وخطاباته الشعبوية رفعت سقف الطموح الألمانى لعنان السماء فلما حصلت الهزيمة ارتبك الناس وبقوا أشبه ما يكون بالخراف الضالة .. والخراف الضالة بتبقى دايماً محتاجة لراعى يوجهها ..

ده بالظبط اللى استغله ( بول شيفر – Paul Schäfer )

ـــــ

بول شيفر فى الحرب العالمية كان مجرد حامل نقالة .. مكانش حتى ممرض .. كان يدوبك بينقل المصابين من أرض المعركة بعد إنتهائها للمستشفى .. بعد الحرب بدأ حياته كواعظ فى أحد الكنائس فى مدينة جارتو الألمانية وهناك حقق شهرة معقولة بسبب تهافت الناس على اللجوء للكنائس .. الألمان زى ما قلنا كان عندهم خواء نفسى ومحتاجين يلجأوا للرب عشان يعينهم على وضعهم المأساوى .. من ناحية تانية شيفر كان مفوه وكلامه معسول وقدر يجمع حواليه عدد كبير من المسيحيين الراغبين فى إنهم يكونوا متدينين .. عاوزين يبقوا متدينين بس مش عارفين إزاى .. وده كان مناسب جداً لواحد زى شيفر ..

بعد فترة قصيرة الكنيسة بتصدر قرار مفاجىء بطرده بدون إبداء أسباب ولكن شهادة الناس بعد سنين طويلة أكدت إن الطرد كان بسبب تحرشه بالأطفال وعشان الموضوع ده ميتسببش فى فضيحة إكتفت الكنيسة بطرده بدون إتهامه جنائياً .. بعد الطرد ملقاش شيفر مكان مناسب ليه فهرب على غابة مدينة جارتو وعاش هناك لفترة ولما رجع أشاع بين الناس إنه قابل المسيح فى الغابة وإن المسيح كلفه بمهمة تأسيس مجتمع مسيحى بيضم المسيحيين الحقيقيين بس .. مين بقى اللى هيحدد المسيحيين الحقيقيين دول .. شيفر طبعاً ..

عاش شيفر لسنين وهو مؤمن بفكرته ولف على كنائس كتير فى ألمانيا للترويج لفكرة المجتمع المسيحى المحافظ المكتفى ذاتياً .. الفكرة جذبت ناس كتير وبدأ عدد أتباعه يزيد .. أقنعهم يسيبوا أشغالهم ويحطوا كل مدخراتهم فى المشروع ده وقالهم إن العائد من نشاط المجتمع ده هيعود على كل أعضائه .. وبالفعل سمعوا كلامه وأشتروا قطعة أرض فى مدينة هايدة وهناك أسسوا مجتمعهم وانتقلوا ليه هما وأولادهم وفكرة شيفر بدأت تكبر يوم ورا التانى .. النجاح كان مذهل لدرجة إن أولياء الأمور كانت بتودى أطفالها عشان يتربوا فى مجتمع شيفر الملتزم .. نجاح وصل للحكومة الألمانية نفسها اللى بدأت تنظم مع شيفر حفلات لإستضافة وفود رسمية أجنبية وتقديم عروض الموسيقى والرياضة البدنية قدامهم كنوع من أنواع القوة الناعمة الألمانية ..

ـــــ

كل شيء فضل ماشى زى الفل لحد ما فى سنة 1960 أمهات لإتنين أطفال من اللى كانوا بيروحوا الكنيسة إتهموا بول شيفر بالتحرش الجنسى بأطفالهم وده خلى الشرطة تحقق فى الموضوع .. أول ما شيفر حس إنه هيتقبض عليه هرب بره البلد وللأسف متقبضش عليه فى المطار .. يجوز بسبب إن القوانين ساعتها مكانش صارمة زى دلوقت .. المهم .. راح على إيطاليا ومنها على الأردن وبعدها مصر ولف على كذا دولة تانية .. ليه ؟ .. كان بيدور على مكان مناسب يقدر يأسس فيه مجتمعه اللى بيحلم بيه من غير دوشة .. فى وسط اللف ده كله بتوصله أخبار من أتباعه فى ألمانيا إن تهم التحرش ثبتت عليه وبالتالى مبقاش يقدر يرجع على ألمانيا تانى .. العجيب إن أتباعه كانوا مصدقينه جداً ورغم ثبوت التهمة عليه إلا إنهم كانوا بيتعاملوا معاه كقديس لا يخطىء وإن التهم دى ما هى إلا أكاذيب ..

سنة 1961 الظروف بتخدم شيفر وبيحصل زلزال قوى جداً فى تشيلى بيدمر تقريباً نصف الدولة الجنوبى كله .. عندها لجأت الحكومة التشيلية لكل الدول لمساعدتها ومن ضمن المساعى دى كانت إتصالات سفير تشيلى فى ألمانيا بمجتمع شيفر فى هايدة .. الراجل عمل كده لإنه كان من ضمن الوفود الرسمية اللى كانت بتحضر حفلات المؤسسة وعجبه جداً فكرة وجود مجتمع محافظ زى ده وتمنى وجوده فى بلده تشيلى ..

خلال فترة قصيرة تم توجيه الدعوة لممثلى المؤسسة للحضور لتشيلى وعلى رأسهم شيفر لتأسيس مجتمعهم هناك .. طب ودعاوى التحرش المثبتة ضده .. لا .. دى مش مشكلة .. دول العالم الثالث كانت بتغض الطرف عن موضوع الأخلاقيات ده تماماً خاصة لما بتمر بكوارث طبيعية زى دى .. وبعدين كده كده أمريكا الجنوبية كلها كانت مرتع لفلول النازيين والفاشيين فمجاتش على متحرش صغير يعنى ..

ـــــ

بدعم من السفير التشيلى قدر بول شيفر إنه يدخل تشيلى ويزور القصر الجمهورى ويقابل الرئيس وتتقدمله تسهيلات محصلتش قبل كده فى زمن قياسى .. تأشيرات ل 300 فرد ( بالغ – طفل ) .. قطعة أرض كبيرة مساحتها تخطت 7400 فدان .. بس الغريب إنهم إختاروها فى مكان عجيب جداً .. بعيد عن العاصمة سانتياجو بحوالى 400 كيلومتر .. فى وسط تشيلى تقريباً وعلى الحدود مع الأرجنتين .. فى مكان نائى جداً وأقرب تجمع سكنى ليهم كان على بعد 30 كيلومتر أو يزيد .. الأرض نفسها كانت صخرية وصعبة الإستصلاح الزراعى رغم إن الزراعة كانت النشاط الأساسى لمجتمع شيفر .. مواصفات زى دى ملهاش غير معنى واحد .. المكان ده تم إختياره عشان يكون معزول عن الناس وقريب من الحدود لتسهيل الهروب إذا ساءت الأمور .. ليه ده كله ؟

خلال فترة قصيرة وصلت الدفعة الأولى من أتباع شيفر من ألمانيا وبعدها بدأت الدفعات تتوالى إما لإنهم مقتنعين بتعاليم شيفر أو لإنهم كانوا خايفين من وقوع حرب عالمية ثالثة أو لمجرد هروبهم من الفقر .. أسر كاملة بأطفالها وصلت لمكان التجمع وبدأوا يهيأوا الأرض زى ما عملوا فى ألمانيا قبل كده .. عاوز أقولكم إن الأرض وقتها مكانش فيها مبنى واحد .. كانوا بيناموا فى خيام .. كانوا بيصطادوا أرانب برية وياكلوها ويشربوا من النهر اللى بيمر داخل أرضهم .. حياة بدائية قاسية جداً .. حطوا كل مدخراتهم ووجهوها لبناء المستعمرة بتاعتهم .. مطبخ وأماكن جماعية للنوم وغرفة إجتماعات وغيره .. مع الوقت الأعداد زادت والفلوس كمان زادت وبدأت الملامح الأولية للمكان تظهر .. المكان اللى تم تسميته بإسم ( كولونيا ديجنيداد – Colonia Dignidad ) أو مستعمرة الكرامة ..

المستعمرة التى لم تمت للكرامة بأى صلة ..

ـــــ

زى ما اتفقنا قبل كده .. الراجل كان مقامه إرتفع وسطهم لمرتبة الإله والعياذ بالله .. كلامه أوامر لا ترد ولا تناقش من الأساس .. العظة الأسبوعية بتاعته كأنها كتاب مقدس .. كلامه كله دار حول مصلحة المجموعة .. أى إجراء هتحسوا إنه صعب ومجحف إعرفوا إن الهدف من وراه هو المصلحة العامة .. كل ده ليكم وبتاعكم .. أول القرارات كانت فصل أفراد المجموعة عن بعضهم على أساس الجنس والعمر .. الرجالة لوحدها والستات لوحدها والأطفال لوحدها .. تم نزع الأطفال من آباءهم وآمهاتهم بحجة المصلحة وإن المصلحة بتقضى بتربيتهم بشكل جماعى عشان يبقوا كلهم أخوات وكل الرجالة أعمامهم وكل السيدات عماتهم .. طب لو ده فى مصلحة الأطفال فإيه المصلحة من فصل الأزواج عن زوجاتهم .. شيفر كان شايف إن الشهوة الجنسية ما هى إلا لمسة شيطانية يجب التخلص منها بل والإعتراف بيها بإعتبارها ذنب لا يغتفر ..

تخيلوا معايا الوضع المزرى ده .. رجالة وستات عايشين لوحدهم وأطفال بتبات بعيد عنهم تحت رعاية سيدة منهم ومحظور عليهم زيارة أبناءهم واللى الحنين ياخده ويزور إبنه بيتعرض للعقاب بشكل علنى أمام الجميع .. كان فى إجتماعات بتتم برنامجها الأساسى هو ركوع الأشخاص المذنبين على الأرض والإعتراف بذنب الوقوع فى شهوة الأبوة أو الأمومة أو شهوة الجسد .. مش إنه إتمسك بجريمة الزنا مثلاً .. لأ .. ده خطر على باله بس أفكار جنسية .. بناءاً عليه بيتم عقابه وإهانة بأقذر الألفاظ بخلاف الضرب المبرح من رجالة شيفر لدرجة إن الشخص البالغ ممكن يقعد أسابيع للتعافى من آثار الضرب .. وكل ده بيتم علانية قصاد الجميع ..

ـــــ

لو فاكر إن الجنان ده بيتم توجيهه للكبار بس تبقى غلطان .. الأطفال كانوا بيعانوا نفس المعاناة .. تخيل أطفال وصلوا لكولونيا ديجنيداد وعمرهم سنتين بس تم فصلهم عن أهاليهم واتربوا على يد شخص غريب مع مجموعة من الأطفال اللى فى نفس عمرهم لحد ما يوصل سنهم لسبع سنين وبدل ما يدخلوا المدرسة زى أى طفل طبيعى بيتم توزيعه على مواقع العمل داخل المستعمرة .. هنا الكل بيشتغل عشان المجموعة بما فيهم الأطفال .. والله يا جماعة لو سمعتوا شهادات الشهود لتبكوا على وضع الأطفال فى الزمن ده .. أطفال أعمارهم بتتراوح بين 8 : 13 سنة ذكور وإناث بيتم تجميعهم فى أماكن نوم مخصصة وبيتم توصيل أقطاب كهربائية بأعضاء جسمهم بما فيهم أعضائهم الحساسة وبيطلب منهم النوم على ظهرهم وعدم الحركة لحد الصبح مع وجود مراقبة عليهم من إحدى العمات ولو أى طفل منهم غلبه النوم وإتحرك لا إرادياً بيتم صعقه بالكهرباء قدام باقى الأطفال .. تخيل لحظات الرعب اللى عاشها الأطفال دول ..

فى شهادتهم بعد سنين طويلة بيقولوا إحنا مكناش عارفين إحنا بنتعاقب ليه أساساً رغم إننا كنا بنعمل المطلوب مننا وزيادة .. كنا بنشتغل 16 ساعة يومياً بدون راحة أو وجبات كافية .. كنا بنأدى التمارين الرياضية وهدفنا الأسمى إننا ننال رضا بول شيفر .. كنا بنأدى الفقرات الموسيقية على أكمل ما يكون .. العقاب وقتها مكانش بسبب التقصير ولكن بهدف خلق مجتمع كامل قائم على الطاعة .. للأسف زى حيوانات السيرك بالظبط .. حيوانات السيرك بتأدى حركاتها المضحكة قدام الجمهور مش حباً فيها أو بهدف المكافئة اللى بتجيلها من وراها .. دى بتأديها لإنها خايفة من عقاب المدرب بتاعها .. فى حالة الأطفال دول العقاب الغير مبرر كان تعريضهم للكهرباء بهدف تعقيمهم وتقليل شهوتهم الجنسية فى مرحلة مبكرة من عمرهم ..

ـــــ

كولونيا ديجنيداد للأسف قصتها مآساوية وطويلة وفيها خبايا كتير .. الإستغلال الجنسى للأطفال .. علاقة شيفر بالحكومة التشيلية واستخدام أفراد الطائفة لخدمة النظام السياسى فيها .. الخدمات المتبادلة بين الطرفين واستخدامهم كسلاح قمع ضد المعارضين السياسيين .. المنافع المتبادلة بين الطرفين .. كل ده هحاول أختصره قدر الإمكان فى الأجزاء الجاية إن شاء الله ..

ـــــ