كن أبا ذر
ـــــــــــــــ
على طريق التجارة بين مكة والشام وتحديداً فى وادى ( ودَّان ) عاشت قبيلة ( غِفَار ) .. قبيلة فقيرة دخلها الأساسى كان قائماً على ما تتركه لهم القوافل العابرة إلى الشام أو العائدة منه فإن أعطوهم كفّوا عنهم وإلا قطعوا طريقهم وأخذوا منهم ما تطاله أيديهم .. من بين أهل تلك القبيلة كان هناك رجلاً يدعى ( جُنْدُب بن جُنَادة ) والذى سيعرف بعد إسلامه باسم ( أبو ذر الغفارى )
( جُندُب ) أو ( أبو ذر ) رغم أنه كان يعمل بعمل أهل قبيلته من قطع للطرق وما شابه إلا أنه وفيما يخص أمور العبادة كان كارهاً لتعبدهم لتلك الأوثان وكان يرى فى أفعالهم سفاهة لا تخطئها عين وفساد فى المعتقد لا يقبله عقل وهو ما جعله من أوائل المهتمين بسماع حديث محمد بن عبد الله الذى إدعى النبوة فى مكة ..
ـــــ
كان لأبو ذر شقيق يدعى ( أنيس ) فقال له :
( إركب إلى هذا الوادى فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتنى )
فخرج أخاه من فوره حتى قدم إلى مكة فسمع من رسول الله ﷺ ثم عاد إلى أخيه فلما سأله عما سمعه قال له :
( رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر )
فقال له أبو ذر :
( ما شفيتني فيما أردت )
ثم طلب من أخيه أن يخلفه فى أهله وخرج بنفسه راغباً بلقاء رسول الله ﷺ لكنه لما وصل إلى مكة رأى أن المشركين يتربصون بكل من يتصل بالنبى ﷺ وكان أبو ذر لا يعرفه فخشى من السؤال عنه فيناله أذى سادة قريش ومكث فى المسجد يلتمسه فلم يجده حتى أدركه الليل فاضطجع ليستعد للمبيت به فإذا بعلى بن أبى طالب رضى الله عنه يمر به ويرى أنه غريب فعرض عليه المبيت عنده فقبل ( أبو ذر ) .. فى اليوم التالى تكرر الأمر وكلا الرجلين لا يفاتحان بعضهما البعض بشيء مما فى نفسيهما .. فلما جاءت الليلة الثالثة وتكرر الأمر إقترب ( على بن أبى طالب ) منه وقال :
( ألا تحدثنى ما الذى أقدمك هذا البلد ؟ )
فقال أبو ذر :
( إن أعطيتنى عهداً وميثاقاً لترشدنى فعلت )
فلما عاهده إطمأن وأخبره عن هدفه من الزيارة فلما سمع ( على ) منه تهلل وجهه وابتهج وقال له :
( إنه حق .. وهو رسول الله ﷺ .. فإذا أصبحت فاتبعنى فإنى إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأنى أريق الماء فإن مضيت فاتبعنى حتى تدخل مدخلى )
وهو ما حدث بالفعل .. فى صباح اليوم التالى تبعه ( أبو ذر ) حتى أرشده إلى النبى ﷺ وهناك سلم عليه وسمع منه القرءان فاطمأن قلبه للإسلام وأسلم فى نفس المجلس فقال له رسول الله ﷺ :
( إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى )
فقال أبو ذر :
( والذى نفسى بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم )
وخرج مسرعاً إلى المسجد الحرام ووقف بين المشركين وأعلن إسلامه بأعلى صوته فقاموا إليه يضربونه حتى كاد يهلك بين أيديهم وما أنقذه منهم إلا ( العباس بن عبد المطلب ) الذى ألقى بنفسه فوقه فكفوا عنه فقام العباس وقال لهم :
( ويلكم .. أتقتلون رجلاً من غِفار وممر قوافلكم عليهم ؟ )
ـــــ
عاد ( أبو ذر ) بعدها إلى قومه واستمر بينهم داعياً إلى الله حتى أسلم نصف قومه فلما هاجر النبى ﷺ إلى المدينة أسلم النصف الآخر وعندها قرر ( أبو ذر ) الإلتحاق به فى المدينة ليعمل على خدمته ويشارك معه فى باقى غزواته ومنها غزوة تبوك التى واجهت كثيراً من الصعوبات بداية من التمويل وصولاً إلى تخذيل المنافقين للناس ودعوتهم إلى القعود وعدم الخروج وهو ما وضع المتخلفين عن تلك الغزوة فى صفوف المنافقين مباشرة فكان كلما تخلف أحدهم أبلغ الناس رسول الله ﷺ بتخلفه فكان يقول :
( دعوه .. إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه )
وكان فى أمر ( أبو ذر ) أن أبطأ به بعيره حتى ابتعد الجيش عنه فخشى أن يظن المسلمين أنه تخلف فأخذ متاعه على ظهره ومشى فى الصحراء يتبع آثار الجيش حتى لحقهم فى إحدى فترات الراحة فنظر واحد من المسلمين فرأى خيالاً من بعيد فقال :
( يا رسول الله .. هذا رجل يمشى على الطريق )
فقال رسول الله ﷺ :
( كن أبا ذر )
فلما تأمله القوم قالوا :
( يا رسول الله .. هو والله أبو ذر )
فقال رسول الله ﷺ :
( رحم الله أبا ذر .. يمشى وحده .. ويموت وحده .. ويبعث وحده )
ـــــ
وكان رضى الله عنه شديداً فى الحق لا يخشى فى الحق لومة لائم وهو ما كان يضعه فى المواجهة دائماً مع كثير من الناس خاصة الأمير أو الحاكم وهو ما حدث مع ( معاوية بن أبى سفيان ) رضى الله عنه وقت إمارته للشام وكان ( أبو ذر ) صاحب أسلوب حاد فى الجدال فطلب معاوية من الخليفة ( عثمان بن عفان ) أن يطلبه فى المدينة لأنه أفسد عليه الشام حسب قوله ..
لما عاد ( أبو ذر ) إلى المدينة استمر فى إنتهاج أسلوبه الحاد فى النصح والإرشاد وهو ما تسبب فى زيادة الجدل بينه وبين كثير من الناس أثناء مناقشة الأمور الفقهية .. تلك الأوضاع جعلت ( أبو ذر ) يضيق ذرعاً من الإقامة فى المدينة فطلب من الخليفة عثمان أن يأذن له بالتوجه إلى ( الرَّبذة ) وهى مدينة تقع شرق المدينة المنورة فعاش بها حتى وفاته .. يرحم الله أبا ذر فقد قال عنه على بن أبى طالب :
( لم يبق أحد لا يبالى فى الله لومة لائم غير أبى ذر .. ثم ضرب بيده على صدره وقال : ولا نفسى )
ـــــ
وفى أمر وفاته أنه لما شعر بدنو أجله بكيت زوجته فسألها عما يبكيها فقالت له :
( ما لى لا أبكى وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندى ثوب يسعك كفناً ولا يدان لى فى تغييبك ؟ )
فقال :
( أبشرى ولا تبكى فإنى سمعت رسول الله ﷺ يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات فى قرية وجماعة .. فأنا ذلك الرجل .. فوالله ما كَذَبت ولا كُذِبت فأبصرى الطريق )
فقالت زوجته :
( أنَّى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق )
فقال :
( اذهبى فتبصَّرى )
فكانت تذهب لترى الطريق وعندما لا تجد أحد تعود إليه لتمريضه حتى حضره الموت فأوصى زوجته وغلامه قائلاً :
( إذا مت فاغسلانى وكفنانى ثم احملانى فضعانى على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم فقولوا : هذا أبو ذر )
فلما مات فعلوا كما أمر فإذا بركب من أهل الكوفة يمر بهم فسألوهم عما يحدث فقالوا جنازة ( أبى ذر ) وكان بين الركب ( عبد الله بن مسعود ) رضى الله عنه فلما سمع كلامهم بكى وقال :
( صدق رسول الله ﷺ : يرحم الله أبا ذر .. يمشى وحده .. ويموت وحده .. ويبعث وحده )
رحم الله ( أبو ذر الغفارى ) ورضى عنه وجزاه عن المسلمين خيراً ..
ـــــ