كعب بن مالك .. قصة توبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى العام التاسع من الهجرة وصلت إلى مسامع النبى ﷺ أخباراً تفيد بأن الإمبراطورية الرومانية بدأت فى جمع حلفاؤها من نصارى العرب من قبائل لخم وجذام وغسان وأمدتهم بعدد من الجنود الرومان تهيئة لغزوهم المدينة المنورة والقضاء على دولة الإسلام التى بدأت فى التشكل كونها تمثل خطراً على مناطق نفوذهم ..
فى ذلك الوقت نزلت الآيات من سورة التوبة
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين )
عزم النبى ﷺ على قتال الروم وغزوهم قبل أن يغزوه فكانت غزوة تبوك ..
ـــــ
مبادرة الروم فى تلك الغزوة لم يكن أمراً سهلاً وهيناً حيث عانى المسلمون من عوائق عدة فى طريق تجهيزهم الجيش وهو ما جعل إقدام النبى ﷺ على غزو الروم يعد ضرباً من المستحيلات بالمقاييس الدنيوية ..
أبرز العوائق التى واجهت المسلمين هى الحر الشديد حيث خرج الجيش فى أشد فترات فصل الصيف حرارة .. أيضاً طول المسافة بين المدينة ومنطقة تبوك وهى تتخطى السبعمائة كيلومتر من الطرق الممهدة فى زماننا الحالى فما بالكم بالحال فى زمان النبوة .. من الصعوبات أيضاً قلة المؤن حيث عانى غالبية المسلمين من قلة المال والرحال والطعام .. صعوبة أخرى تمثلت فى قوة الإمبراطورية الرومانية نفسها وميزان القوة العسكرية الذى يميل إليها بشدة .. وأخيراً واجه المسلمين خطراً داخلياً تمثل فى المنافقين الذين بدأوا فى تثبيط همم الناس والإيعاز لهم بالبقاء وعدم الخروج خاصة مع كل المعطيات السابق ذكرها ..
لا مال ولا رحال ولا قوة مكافئة للروم بالإضافة إلى شدة الحرارة .. فلم الخروج إذاً ؟
ـــــ
على الرغم من كل ما سبق إلا أن دعوة النبى ﷺ وجدت صداها فى نفوس كثير من العرب فتجمع له قرب الثلاثين ألف مقاتل وتسابق الجميع فى تقديم ما استطاعوا من دعم مادى وعينى لتجهيز الجيش حتى إذا ما انتهوا من تجهيزه خرجوا جميعاً فلم يبق فى المدينة سوى سيدنا على بن أبى طالب الذى خلفه النبى ﷺ على أهل بيته وبعض الذين عذرهم الله تعالى من الضعفاء وأخيراً المنافقين ..
بخلاف من سبق ذكرهم بقى فى المدينة ثلاثة رجال ..
واحد منهم اسمه كعب بن مالك ..
ـــــ
هو كعب بن مالك .. صاحب النبى وأحد شعراؤه وأحد رواة الحديث المعروفين .. حضر بيعة الرضوان وحضر كل المواقع من بعد معركة بدر وفى غزوة أحد كان هو من اكتشف أن رسول الله ﷺ لازال حياً بعد أن أشاع الكافرين وفاته .. فى تلك المعركة دعاه رسول الله ﷺ وأعطاه عدة الحرب الخاصة به فلبسها سيدنا كعب ثم قاتل قتالاً شديداً فلما انتهت الغزوة وجدوه حياً وفى جسده سبعة عشر جرحاً .. هو إذاً كعب بن مالك واحد من أشهر صحابة رسول الله ﷺ ومن أكثرهم تقوى وصلاح وصلابة فى المعارك ..
إذاً كيف ينتهى به الحال متخلفاً عن النبى ﷺ فى غزوة تبوك ؟
ـــــ
فى تلك الغزوة خرج المسلمين فجهزوا أنفسهم على أكمل ما يكون .. غزوة مثل تلك وعدو مثل هذا لابد له من إستعدادات خاصة .. كل هذا يحدث أمام عيناه وكلما نظر إليهم رأى فى نفسه أنه يستطيع أن ينجز أمره فى أسرع وقت .. يقول سيدنا كعب :
( لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عن رسول الله ﷺ فى تلك الغزوة .. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما فى تلك الغزوة )
ويقول أيضاً :
( فتجهز رسول الله ﷺ والمسلمون معه وطفقت أغدو لكى أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً وأقول فى نفسى أنا قادر على ذلك إذا أردت .. فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله ﷺ غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازى شيئاً .. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتنى فعلت .. ثم لم يُقدر ذلك لى فطفقت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله ﷺ يحزننى أنى لا أرى لى أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه فى النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء )
تلك الحالة التى رأى نفسه فيها أدرك معها أن القادم صعب للغاية ..
ولكن مهما توقع صعوبته فلن يصل خياله أبداً إلى ما سيحدث ..
ـــــ
لما بلغ رسول الله ﷺ تبوك سأل من حوله عن سيدنا كعب فقال :
( ما فعل كعب بن مالك ؟ )
فقال رجل من بنى سلمة :
( يا رسول الله .. حبسه بُرداه والنظر فى عطفيه )
وكان يقصد أنه مشغول بدنياه معجب بنفسه وما لديه من مال ولباس .. فقال له معاذ بن جبل :
( بئس ما قلت .. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً )
فسكت رسول الله ﷺ ولم يذكره بشيء .. بعد أن عسكر المسلمون قرابة العشرين يوماً عادوا من الغزوة دون قتال بعد إنسحاب قوات الروم من أماكن نفوذها فسيطر المسلمون عليها ونظم رسول الله ﷺ أمور تلك المدن ثم قفلوا عائدين إلى المدينة مرة أخرى ..
فى الطريق إلى المدينة نزل الوحى على النبى ﷺ بآيات تنهاه عن الصلاة فى مسجد الضرار الذى أقامه المنافقون فأمر بعض الصحابة بالإسراع إلى المدينة المنورة وإحراق المسجد قبل دخوله ﷺ إليها وعندها علم كعب بن مالك بإقتراب النبى من المدينة ..
ماذا أنت قائل يا كعب ؟
وما هو عذرك ؟
ـــــ
فى اليوم التالى وصل رسول الله ﷺ إلى المدينة وكان من عادته أن يستهل وصوله بالصلاة فى المسجد ثم يقعد للناس فما أن انتهى من صلاته حتى جاءه المُخَلّفون يعتذرون ويحلفون له أنما هى الضرورة ما منعتهم من الخروج وكانوا بضعاً وثمانون رجلاً فقبل منهم النبى ﷺ واستغفر لهم ثم ترك سرائرهم إلى الله .. كل ذلك وسيدنا كعب يتخوف الجلوس أمام رسول الله ﷺ وكلما جاء دوره ترك غيره ليعتذر حتى نظر إليه رسول الله ﷺ وقال :
( ما خَلّفك ؟ .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ )
فرد عليه قائلاً :
( يا رسول الله .. إنى والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً .. ولكنى والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يسخطك على .. ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه إنى لأرجو فيه عقبى الله .. والله ما كان لى عذر .. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك )
فقال رسول الله ﷺ :
( أما هذا فقد صدق .. فقم حتى يقضى الله فيك )
ـــــ
كعب بن مالك لم يكن الوحيد الذى تخلف بدون عذر .. كان معه إثنان آخران .. شيخان كبيران فى السن هما ( مرارة بن الربيعة ) و ( هلال بن أمية ) وهما من السابقين الذين شهدوا بدراً ورغم هذا فقد نهى رسول الله ﷺ الناس عن الحديث معهم دوناً عمن اعتذر من الناس .. فأما مرارة وهلال فاجتنبا الناس وبقيا فى منزلهما يبكيان على ذنبهما وأما كعب بن مالك فكان أصغرهم سناً وأكثرهم جرأة على مخالطة الناس فكان كلما حاول التقرب من أحدهم وجده ينفر منه ويبتعد عنه .. يطوف بالأسواق ويخرج إلى الصلاة ويسلم على رسول الله ﷺ فلا يعلم إذا ما حرك شفتيه بالسلام أم لا .. إذا دخل فى الصلاة ينظر إليه رسول الله ﷺ وإذا ما أنهاها صرف نظره عنه .. بإختصار تغيرت طريقة الناس فى معاملته وصار كالمنبوذ فى مجتمع المسلمين حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت ..
يقول كعب بن مالك :
( حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس إلى فسلمت عليه فوالله ما رد على السلام .. فقلت له : يا أبا قتادة .. أنشدك بالله هل تعلمن أنى أُحب الله ورسوله .. قال فسكت .. فعدت فناشدته فسكت .. فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم .. ففاضت عيناى وتوليت )
ـــــ
كعب بن مالك فى تلك الأيام كان يعيش أضعف حالاته النفسية .. الجميع يتجنبه بما فيهم رسول الله ﷺ نفسه ووصل الأمر بتشكك أقرب الناس إليه فى صدق حبه لله ولرسوله .. وبينما هو على هذه الحال أراد الله أن يختبر إيمانه فوصل إليه كتاب من ملك غسان أحد ملوك نصارى العرب التابعين للإمبراطورية الرومانية يقول فيه :
( أما بعد .. فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك .. ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة .. فالحق بنا نواسك )
فلما قرأها ألقى بها فى التنور فاحترقت ثم قال :
( وهذه أيضا من البلاء )
لو كان سيدنا كعب ضعيف الإيمان وفى ظل الضغوط التى كان يعيشها لكان مال إلى كتاب ملك غسان وأقبل على الدنيا التى فتحت ذراعيها إليه ولكنه أحرق رسالته وفضل البقاء منبوذاً فى أراضى المسلمين حتى يحكم الله فيه ..
بعد أربعين يوماً من جفوة المسلمين له جاء إليه رسولاً من النبى ﷺ يخبره بأن رسول الله ﷺ يأمره بأن يعتزل إمرأته ولا يقربنها فامتثل كعب لأمره ﷺ وطلب من زوجته أن تلحق ببيت أهلها حتى يقضى الله فى أمره وظل على حاله عشرة أيام .. تخيلوا حالته فى تلك المحنة .. أربعين يوماً يخالط الناس فلا يكلمه أو يقربه أحد ثم يواجه فتنة كتاب ملك غسان وكل هذا يحدث فى وقت يعانى فيه من هشاشة نفسية شديدة يحتاج معها إلى الحديث لأى شخص فإذا برسول الله ﷺ يأمره بإعتزال أقرب الناس إليه وهى زوجته ..
أى محنة تلك ؟
وأى إختبار صعب تمر به يا كعب ؟
ـــــ
فى فجر اليوم الخمسين أتى فرج الله فنزلت الآية :
( وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 118 ) #سورة_التوبة
فى تلك اللحظات كان كعب بن مالك يصلى صلاة الفجر على ظهر بيته فإذا بصوت يأتيه من بعيد :
( يا كعب بن مالك أبشر .. يا كعب بن مالك أبشر )
فخر لله ساجداً بعدما تيقن من إتيان فرج الله .. من شدة سعادته نزع ثوبه وأعطاه للبشير مكافأة له على بشارته ثم ذهب من فوره مهرولاً إلى رسول الله ﷺ والناس تتلقاه يهنئونه على توبة الله عليه حتى وصل إلى المسجد وسلم على النبى ﷺ فرد عليه النبى ووجهه يبرق من السرور وقال :
( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )
فقال كعب :
( أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله )
فقال النبى ﷺ :
( لا .. بل من عند الله )
فقال كعب :
( يا رسول الله .. إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله ﷺ )
فقال النبى ﷺ :
( أمسك بعض مالك فهو خير لك )
فقال :
( فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر .. يا رسول الله .. إن الله إنما أنجانى بالصدق .. وإن من توبتى أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت )
يقول كعب :
( والله ما أنعم الله على من نعمة قط بعد إذ هدانى الله للإسلام أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله ﷺ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا )
فرحم الله سيدنا كعب بن مالك ورزقنا توبة كتوبته ..
ـــــ