فنزويلا .. عندما يقتل الفساد وطناً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثانى :
ــــــــــــــــــــــ
فى نهايات عام 1988 يقف المرشح الرئاسى #كارلوس_أندريس_بيريز هاتفاً فى أحد خطاباته :
( صندوق النقد الدولى هو قنبلة نيوترونية .. قنبلة قتلت الناس لكنها تركت المبانى على حالتها )
بعد شهور قليلة سينجح كارلوس فى الإنتخابات و أحد أوائل قراراته سيكون التفاوض مع صندوق النقد الدولى على قرض مالى جديد .. قرض يحمل شروطاً غاية فى القسوة .. شروطاً وافق عليها كارلوس بيريز بحذافيرها .. اتضح أن الرجل صاحب الخطاب الإشتراكى خدع الشعب الفنزويلى المسكين ..
ـــــ
إذا إفترضنا حسن النية فى كارلوس بيريز فسيكون بسبب شيئاً واحداً .. فنزويلا إعتمدت دائماً و أبداً على النفط كسلعة رئيسية لتصديرها و بسبب إرتفاع سعر برميل البترول إلى 122.13 دولار عام 1980 استطاعت الحكومة إقرار برامج حماية إجتماعية حافظت على كرامة الشعب و خفضت معدلات الفقر بشكل كبير .. بعد خمس سنوات فقط من إقرار تلك البرامج هبط سعر البرميل إلى 24.22 دولار فقط .. عندها أصبحت تلك البرامج عبئاً على الدولة و توجب على الحكومة إلغاؤها ..
شروط الصندوق تم بلورتها من رجال حزب كارلوس فى حزمة تقشفية بالغة القسوة و رغبة منهم فى إقناع الشعب بجدواها أطلقوا عليها إسم جذاب .. #المنعطف_العظيم – #El_Gran_Viraje .. فى البداية لم يعى الشعب حجم المأساة التى سيواجهها لكنه تدريجياً علم أبعادها .. خصخصة للشركات الحكومية الكبرى .. رفع لمعدلات الضرائب .. تحرير التجارة و فتح الأسواق أمام الشركات الأجنبية .. تخفيض الرسوم الجمركية أمام السلع الواردة من الخارج .. تقليص دور الدولة تماماً فى الإقتصاد المحلى .. إنهيار الصناعة المحلية بشكل سريع لعدم قدرتها على منافسة السلع المستوردة عالية الجودة .. كل ما سبق كان هيناً أمام أقسى قرارات كارلوس بيريز .. إلغاء دعم الوقود .. فجأة تضاعفت اسعار البنزين و إرتفعت معها فاتورة النقل بنسبة 30 % .. بجانب خفض دعم الوقود شملت الحزمة تخفيض مخصصات الصحة و التعليم و البنية التحتية و الضمان الإجتماعى .. كانت كارثة و حلت على رأس الفنزوليين إلا أنها مغلفة بمسمى خلاب .. إصبروا أيها الفنزوليين الشرفاء فنحن فى وسط المنعطف العظيم و بعدها فالمستقبل أمامكم تجنون فيه نتيجة صبركم ..
ــــ
حجم السخط الشعبى على كارلوس بيريز بلغ أقصاه و بدا واضحاً أن الوضع أصبح قابلاً للإنفجار فى أى لحظة .. بدأت بوادر الأزمة عندما قرر كارلوس إقامة حفل ضخم دعا فيه عدداً من رؤساء أمريكا اللاتينية .. أحد هؤلاء الرؤساء كان #فيدل_كاسترو ..
كاسترو حضر و معه بعثة دبلوماسية كبيرة و بعد الإحتفال غادروا عائدين إلى بلدهم و لكن بعض التحريات المخابراتية أثبتت أن عدد البعثة المغادرة كان أقل من عددها حين أتت .. اتضح لاحقاً أن كوبا تركت عملاء لها فى فنزويلا لتأجيج الأوضاع بها رغبة منهم فى إنهاء سطوة النظام اليمينى المسيطر على مفاصل الدولة منذ عقود و تنصيب غيره ذو صبغة شيوعية يساعدها على مواجهة الظروف الإقتصادية الصعبة التى تمر بها .. ذلك كان تمهيداً لأحداث دموية عرفت باسم #كاراكاثو – #Caracazo
بعد أقل من شهر و تحديداً يوم 27 فبرابر 1989 و فى بلدة #جوارناس على بعد 30 كيلومتر عن العاصمة كاركاس بدأت الإحتجاجات .. شعارات غاضبة تمحورت جميعها حول الغلاء و ارتفاع أسعار المحروقات .. فى البداية كانت المظاهرات سلمية إلا أنه مع الوقت و دون سبب واضح بدأت المواجهات المسلحة .. ضحايا وقعت من الشرطة و المدنيين على حد سواء .. و مع كل قتيل يسقط تزداد المواجهات حدة ..
فى اليوم التالى و مع إستمرار المواجهات أعلن كارلوس بيريز حالة الطوارىء و أعلن الأحكام العرفية و عطل مواد الدستور التى تقضى بحرية التظاهر و الحرية الفردية و حق التجمع و الإحتجاج السلمى و قانونية اقتحام المنازل .. بكل بساطة كان هذا إيذاناً بالتعامل القاسى و الدموى مع المتظاهرين .. بدأت أعداد القتلى فى الإزدياد فى جانب المدنيين و معها بدأت المظاهرات فى أخذ منحى أخر .. تخريب المنشآت العامة و سرقة المحال التجارية حتى صار أمراً عادياً أن تجد مواطنين ملثمون يسيرون فى الشارع و هم يحملون قمحاً أو دقيقاً أو أجهزة كهربائية أو حتى جالونات من البنزين .. تسعة أيام متواصلة من السرقة و النهب و القتل .. الأرقام الرسمية قالت إن عدد الضحايا 276 شخصاً فقط لكن الأرقام غير الرسمية أوصلت العدد إلى 3000 قتيل و آلاف غيرهم من المصابين ..
هل انتهى الأمر عند هذا ؟ .. نعم .. لكن الغضب داخل النفوس استمر و رغبة الإنتقام كانت تنتظر الفرصة .. بعد عام اندلعت أعمال شغب فى #بويرتو_لا_كروز .. بعد أربعة أشهر إندلعت المظاهرات فى #برشلونة .. تلاها مواجهات أخرى فى #ماراكايبو .. إلا أن كل هذا لا يوازى ما فعلته #MBR_200
ـــــ
الحركة الثورية البوليفارية .. حركة سرية أسسها ضابط فى الجيش الفنزويلى يدعى #هوجو_تشافيزعام 1982 كحركة سياسية و إجتماعية بالأساس إلا أنه و مع الوقت تحول تفكير أعضائها نحو المواجهة المسلحة إلى أن قرروا الإنقلاب على نظام الرئيس كارلوس بيريز عام 1992 ..
ما حدث فى أحداث كاراكاثو الدامية كان أهم الأسباب التى دفعت تشافيز و فرقته للتخطيط للإنقلاب .. الفقر أيضاً بلا شك .. معدل الديون كان تاريخياً وقتها .. كلها أسباب وجيهة من وجهة نظر تشافيز و فرقته .. تم التخطيط للحدث على أتم ما يكون إلا أن تشافيز أغفل أمراً واحداً .. تشافيز كان وطنياً بحق .. لم يرغب فى السلطة لنفسه .. هو فقط كان قائداً للفرقة التى ستقوم بالعمل الصعب أما الرئاسة فكان سيترك أمرها للرئيس السابق #رفاييل_كالديرا .. حاكم مدنى و رئيس سابق و رئيساً لمجلس الشعب و نائباً عاماً و أكاديمى .. كان هذا إختياراً ممتازاً لولا أن الأدميرال #هيرنان_أودريمان كان يرى أنه الأحق بالجلوس على رأس السلطة بعد القبض على كارلوس بيريز ..
ـــــ
خطة تشافيز كانت تقضى بتحرك 5 وحدات عسكرية فى صباح الرابع من فبراير عام 1992 للسيطرة على المنشآت الحيوية فى عدة ولايات و على رأسها العاصمة كراكاس .. منشآت عسكرية رئيسية .. قطع الإتصالات عن العاصمة بالكامل .. السيطرة على مطار #لا_كارلوتا العسكرى .. المتحف العسكرى .. وزارة الدفاع .. و الأهم .. #قصر_ميرافلوريس_الجمهورى رمز سلطة النظام الحاكم .. لا يوجد داعى للإندهاش هنا فتشافيز وقتها كان يسيطر على 10 % على الأقل من جيش فنزويلا و هو عدد ليس بقليل لو تم الإستفادة من عامل المفاجأة .. خطة كانت من المفترض أن تكون نهايتها القبض على كارلوس بيريز العائد من رحلة خارجية فى دافوس بسويسرا و من ثم اغتياله .. الأدميرال هيرنان أودريمان كان هو المسئول عن إغتياله عند هبوطه فى مطار مايكيتيا ..
على ما يبدو أن أودريمان تهاون فى مسألة إغتيال كارلوس بيريز بعد علمه بأنه لن ينال منصب الرئاسة فاستطاع الرجل الهروب من المطار .. علم تشافيز بالطبع بما حدث فقرر تدبير محاولة ثانية لاغتيال الرئيس عن طريق قائد الجيش #ميجيل_رودريجيز إلا أن بيريز كان قد اتخذ إحتياطاته و هرب من المطار بسيارة عادية بخلاف سيارة الرئاسة ..
المحاولة الأخيرة كانت عند قصر ميرافلوريس .. بيريز استطاع الوصول إلى القصر بينما جاءت وحدات تشافيز متأخرة لتحاصره بالداخل .. الخطة كانت تقضى بأن يتم فتح باب القصر بواسطة عدد من الموالين لتشافيز بالداخل إلا أن بيريز إستطاع إكتشاف أمرهم ثم حصن دفاعات القصر .. عندما حاولت فرقة تشافيز الإقتحام فاجئهم رصاص الحرس الجمهورى فتراجعوا للخلف .. فى ذلك الوقت كان تشافيز نفسه مسيطراً على المتحف العسكرى إلا أنه و بسبب فشل خطة إغتيال كارلوس بيريز لم يجد الدعم من باقى وحداته و انقطعت إتصالاته بهم فاضطر للإحتماء بالمتحف حتى اضطر لتسليم نفسه ..
ـــــ
حاول النظام الحاكم الإستفادة من القبض على تشافيز بأن جعلوه يخرج على التلفاز ليلقى بيان الإستسلام طالباً من رفاقه ترك أسلحتهم .. باقى فرق تشافيز نجحت فى السيطرة على الولايات الأخرى إلا أن فشل السيطرة على كاراكاس هدم جهودهم ..
خرج تشافيز على التلفاز بملامح صارمة و كلمات واثقة و قال :
( أيها الرفاق .. بكل أسف لم تتحقق الأهداف التى حددناها لأنفسنا فى العاصمة .. و هذا يعنى أن فرقنا هنا فى كاراكاس لم تستطع الإستيلاء على السلطة كما كان مخططاً .. رفيقى .. أينما كنت .. لقد أبليت حسناً .. لكن الآن حان الوقت لإعادة التفكير .. سيكون أمامنا الفرصة لإحتمالات جديدة يوماً ما .. و عندها ستكون البلاد قادرة على المضى نحو مستقبل أفضل .. إرفع رأسك .. لقد فشلنا الآن فقط .. و سننتصر يوماً ما )
بيان تشافيز بهذا الأسلوب المتحدى جعل النظام يندم على السماح له بالظهور على التلفاز .. الرجل صار أيقونة .. صار رمزاً لغالبية الشعب المطحون بين مطرقة الفقر و سندان القهر .. كان تشافيز فى نظرهم البطل الذى سينقذهم من براثن الفساد الحكومى الذى ألهب ظهورهم لسنوات طويلة .. تشافيز بالطبع سيسجن .. لكن لحسن حظه أن رافاييل كالديرا سينجح فى الإنتخابات التالية و يكون على رأس السلطة رسمياً .. سينال عفواً رئاسياً بعد قضائه قرابة العامين فى السجن .. الحركة الثورية البوليفارية ستتحول إلى حركة الجمهورية الخامسة .. و السجين سيتحول إلى سياسى يخوض الإنتخابات الرئاسية بعزم ..
الثورة البوليفارية ستجد طريقها أخيراً إلى قصر الرئاسة ..
ـــــ
فى الصورة :
ــــــــــــــــــــ
الضابط هوجو تشافيز يلقى بيان الإستسلام بعد فشل إنقلابه على الرئيس كارلوس أندريس بيريز عام 1992
ــــــ
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى :
https://play.google.com/store/apps/details…
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور :
https://itunes.apple.com/app/id1432249734
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ