فنزويلا .. عندما يقتل الفساد وطناً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول :
ــــــــــــــــــــ
التشابه هو السمة الرئيسية فى أمريكا اللاتينية .. من فرط التشابه تشعر أن دول أمريكا اللاتينية كان عليها أن تكون دولة واحدة .. تقسيمها لم يقدم أو يؤخر شيئاً .. حتى أعراق شعوبها تكاد تكون واحدة ..
الإنقلابات العسكرية على الرؤساء هى وجه التشابه الأبرز .. الفقر و نقص التعليم و إنتشار الأمراض سمات واضحة أيضاً .. بالطبع اللغة الإسبانية سمة أساسية بإستثناء البرازيل التى تتحدث البرتغالية .. نفس الوجوه .. نفس الإرهاق .. نفس المعاناة .. نفس المطالب .. و حتى نفس أسلوب الإنقلابات ..
ـــــ
عام 1945 كان إنقلاباً نظيفاً على غير المعتاد .. #رومولو_بيتانكورت أتى إلى السلطة عن طريق إنقلاب ساهم فيه عدداً من ضباط الجيش بالإضافة لمثقفين فنزوليين على رأسهم #رومولو_جايجوس و الذى سيتولى الرئاسة خلفاً لبيتانكورت بعد ثلاثة أعوام ..
على خلاف القاعدة المعروفة عن الإنقلابات أنها تأتى للإستيلاء على مقدرات الدولة و الإستئثار بها جاء إنقلاب بيتانكورت و جايجوس ليحمل طابعاً إشتراكياً يساهم فى رفع المعاناة عن الشعب الفنزويلى الذى لم يستفد كثيراً من إرتفاع أسعار النفط عالمياً بسبب الحرب العالمية الثانية ..
إهتم بيتانكورت بالنقابات العمالية و ساعدها على تنظيم أمورها و تحديد مطالبها التى وجهت بالأساس لشركات النفط الأجنبية فى البلاد .. من ناحية أخرى قام بسن قوانين رفعت من قيمة الضرائب المفروضة على تلك الشركات .. الأنظمة الإشتراكية وقتها كانت تتجه للتأميم كاختيار أول و لكن بيتانكورت استعاض عن التأميم بزيادة الضرائب لأنها من وجهة نظره أتت بنفس المردود الإقتصادى و خففت حده المواجهة مع الدول الأجنبية .. على كل حال فالدول الأجنبية وقتها كانت فى آتون الحرب العالمية الثانية و لم يكن عندها رفاهية محاسبة أحد بالإضافة لإحتياجها الدائم لموارد نفطية .. باختصار ساهمت الظروف المحيطة فى إمكانية تطبيق بيتانكورت لجزء من برنامجه اليسارى ..
خلال فترته الرئاسية يسر بيتانكورت إجراءات تأسيس النقابات العمالية .. تأسست فى فترته أكثر من 500 نقابة .. ألغى إمتياز بعض شركات النفط و قنن التعامل مع البقية .. طور و حدث مصافى النفط .. رفع الأجور لمستويات قياسية مقارنة بالعهد السابق له .. فترة ناجحة بلا أدنى شك ..
ـــــ
فى انتخابات عام 1947 ترشح أحد مناصرى بيتانكورت و هو الكاتب و الروائى رومولو جايكوس و كان طبيعياً أن ينجح الرجل لشهرته أولاً و لكونه ينتمى إلى نظام يعمل لمصلحة الشعب ثانياً .. #جايكوس فاز بنسبة تاريخية بلغت 74 % .. إنتخابات وصفت بأنها أول إنتخابات نزيهة فى تاريخ فنزويلا .. أبرز ما قام به الرجل فى فترة رئاسته القصيرة كان رفع معدل الضريبة على أرباح شركات النفط الأجنبية من 43 % إلى 50 % فى نظام عرف عالمياً بإسم #Fifty_Fifty ..
الحرب العالمية انتهت منذ ثلاث سنوات و بدأت الدول العظمى فى ترتيب أوراقها و رسم خريطة حلفاؤها .. تصرفات بيتانكورت و من بعده جايكوس حسمت الأمور تماماً .. هذا نظام يريد أن يخرج عن طاعتنا .. هذا نظام يعمل لصالح شعبه .. لم يستمر جايكوس فى منصبه سوى تسعة أشهر بعدها أتى دور كارلوس دلجادو تشالبو وزير الدفاع فى عهدى بيتانكورت و جايكوس ..
ـــــ
#كارلوس_دلجادو_تشالبو
#ماركوس_بيريز_خيمينيز
#لويس_لوبيرا_بايز
وزير دفاع و إثنان من أعضاء المجلس العسكرى الفنزويلى مدعومين سراً من الولايات المتحدة يقومون بالإستيلاء على السلطة و يطردون بيتانكورت و خليفته جايكوس خارج البلاد .. كوبا ستكون منفاهم الإختيارى ..
إدعى الثلاثة فى إنقلابهم أنما كان تحركهم خشية تأثر البلاد من سياسة جايكوس الإشتراكية حيث تم توجيه أغلب موارد الدولة للفقراء دون وضع القوات المسلحة فى الإعتبار .. تخفيض أجور الجنود و ضعف إمداد الجيش بالأسلحة الحديثة قد يؤثر على ولاء الجيش فى المستقبل ..
لم يستمر الرجل سوى عامين فقط فى السلطة قبل أن يتم اختطافه و قتله فى حى لاس ميرسيدس المهجور فى نوفمبر 1950 و لم يعلم السبب الحقيقى للإختطاف إلا أن أقوى الأسباب كان ضلوع #ماركوس_بيريز الرجل الثانى فى عملية الإنقلاب فى اختطافه للإنفراد بالسلطة خاصة و أن #لويس_بايز الرجل الثالث لم تكن له أطماع سياسية كبيرة ..
ـــــ
ماركوس بيريز طبق المعنى الحرفى لماهية الإنقلاب العسكرى .. فى البداية ظهر فى صورة الرجل الأمين على مصالح الدولة و أنه لم يأتى لأطماع شخصية و حتى يؤكد صدق نواياه أرسل إلى #جيرمان_سواريز_فلاميريتش سفير بلاده فى بيرو ليعود فوراً و يتسلم الحقيبة الرئاسية .. بالطبع لم يجرؤ الرجل على الرفض .. أصبح لفنزويلا رئيساً معيناً من المجلس العسكرى إلا أن الجميع كان يعلم أن السلطة الحقيقية كانت فى يد ماركوس بيريز ..
ماركوس كان يريد مرحلة إنتقالية قبل أن يتولى الحكم رسمياً و لم يجد أفضل من فلاميريتش ليمثل دور الرئيس الدمية .. بعد أقل من عامين جاء وقت الإنتخابات البرلمانية و قد أعد لها ماركوس ما يستطيع لتزويرها إلا أنه و بسبب الرقابة الدقيقة للعملية الإنتخابية خرجت النتائج الأولية لتشير إلى فوز المعارضة بمقاعد الأغلبية .. طلب ماركوس من فلاميريتش التصرف إلا أن الرجل لم يجد ما يفعله فاضطر المجلس العسكرى وقتها لإيقاف عملية فرز الأصوات لمدة ثلاثة أيام لدواعى أمنية و أيضاً لإعادتها مرة أخرى بسبب وجود شبهات بالتزوير .. بعدها أفرجت السلطة العسكرية عن النتائج بعد تشويهها تماماً و نتج عن هذا التزوير حصول أنصارهم على الأغلبية المطلقة ..
بعدها حل المجلس العسكرى نفسه و سلم السلطة إلى الجيش ليدير البلاد و الذى قام بالطبع برد الجميل إلى ماركوس بتعيينه رئيساً مؤقتاً ثم أقروه رئيساً دائماً بعد بضعة أشهر .. أما عن فلاميريتش فقد تم نفيه خارج البلاد و لم يعود مرة أخرى إلا بعد سقوط نظام ماركوس بيريز ..
ـــــ
قد يبدو لك هذا المقطع متشابهاً مع كثير مما قرأته عن أفعال الطغاة حول العالم .. ماركوس بيريز فعل ما يفعله أى ديكتاتور يحترم نفسه .. أطلق يد جهاز الأمن القومى – #Seguridad_Nacional لينال من كل من تسول له نفسه الإعتراض عليه .. حاول مجموعة من مناوئيه أن يزرعوا له قنبلة إلا أن جهاز الشرطة السرية اكتشف الأمر و اعتقل و عذب كل من شارك بالأمر .. ألغى كثيراً من برامج الحماية الإجتماعية .. استولى على الدخل القومى الفنزويلى و وزعه على مؤيديه من الجيش و الشرطة .. توسع فى شراء أسلحة حديثة للجيش بدون حاجة حقيقية لها .. ضعفت المخصصات المالية الموجهة للصحة و التعليم و المواصلات فأصاب التردى تلك القطاعات .. احتاج الشعب للطعام فاضطر الديكتاتور للإقتراض .. زادت الديون فارتفع معدل الفقر و ضعفت معه القدرة الشرائية للشعب .. إنهيار إقتصادى تام فى فترة وجيزة ..
ـــــ
فى 27 مارس 1957 و فى أحد القاعات الموسيقية الكبرى فى كاراكاس قام الملحن و الموزع الأمريكى #آرون_كوبلاند بعرض مقطوعته الموسيقية #بورتريه_لينكولن .. وسط المقطوعة كان هناك آداء صوتى ستقوم به الممثلة #جوانا_سوجو .. جوانا كانت ممثلة أرجنتينية مقيمة فى فنزويلا و كانت تعارض بشدة سياسات الديكتاتور ماركوس بيريز .. حينما أتى وقت أداءها قالت جملتها :
( حكومة الشعب .. من الشعب .. و لأجل الشعب .. لا يمكن إبادتنا من الأرض )
كررتها مرتين قبل أن يستوعب الحضور ما توجب عليهم فعله .. الشعب الفنزويلى وقتها كان قد وصل إلى أقصى حدود ضيقه .. كان فقط ينتظر إشارة من أحدهم .. شخص ما توجب عليه أن يفجر ذلك البالون الملىء بالضغوط الإقتصادية و الإجتماعية .. ذلك الشخص كان جوانا سوجو ..
فى الثوانى التالية لكلماتها انفجرت القاعة بالهتاف ضد ماركوس بيريز حتى غطت الهتافات على الموسيقى المعزوفة .. أثر المظاهرة بدأ فى الإنتشار سريعاً و بدأت الناس تتحين الفرصة لمظاهرات أخرى .. فى الأشهر الثمانية التالية لتلك الهتافات حدثت الكثير من الإضطرابات .. أعمال شغب .. مظاهرات متقطعة .. إضرابات .. وضع عام أجبر الجيش الفنزويلى على التخلى عن رجله الأول ماركوس بيريز ..
فى 23 يناير 1958 هرب ماركوس إلى الولايات المتحدة تاركاً السلطة للجيش إلا أن الجيش الذى وجد طوفان المظاهرات فى الشوارع لم يستطع الإحتفاظ بالسلطة أكثر من هذا و قرر تسليمها إلى المدنيين فتم التمهيد لتوقيع إتفاق #بونتو_فيجو و الذى وقعه أكبر ثلاثة أحزاب فى الدولة لقبول نتائج الإنتخابات أياً كانت و إعلاء قيم الديموقراطية و عدم الإنجرار إلى أعمال العنف مرة أخرى ..
ماذا عن ماركوس بيريز ؟ .. بعد خمس سنوات ستسلمه الولايات المتحدة إلى فنزويلا مرة أخرى ليواجه إتهامات بإختلاس 200 مليون دولار و سيودع السجن لخمس سنوات بعدها سيخرج ليتم نفيه إلى إسبانيا التى سيعيش فيها حتى وفاته عام 2001 ..
ـــــ
بعد ماركوس عاشت فنزويلا مرحلة ديموقراطية ليست قصيرة آتت فى البداية بالرئيس السابق رومولو بيتانكورت بعد أن عاد من منفاه .. بيتانكورت نجح فى الإنتخابات على خلفية أنه رجل إشتراكى طبقاً لما قام به فى فترته الرئاسية الأولى إلا أن الرجل عاد حاملاً لبرنامج يمينى تقشفى رغبة منه فى سداد الديون التى ارتفعت فى عهد بيريز .. المشكلة لم تكن فى بيتانكورت نفسه و إنما فى كافة الرؤساء الذين جاءوا بعده .. على ما يبدو فإن الولايات المتحدة وجدت طريقها للسيطرة على رأس الحكم فى فنزويلا رغبة منها فى عدم إنتشار الشيوعية فى القارة التى تقع جنوبها و أيضاً للسيطرة على الدولة الغنية بالنفط ..
الحزب الشيوعى تم تهميشه تماماً و اقتصر توزيع شئون الحكم على أطراف إتفاق بونتو فيجو .. حزب الديموقراطية .. الحزب المسيحى الإجتماعى .. حزب الإتحاد الديموقراطى الجمهورى .. كلما زادت الحكومات فى إجراءاتها الرأسمالية غاص الشعب أكثر فى الفقر و كلما غاص أكثر كلما زاد الغضب المكتوم فى الصدور .. بسبب ذلك التهميش قرر اليسار الخروج على الشرعية فكان أول الخارجين هو الحزب الشيوعى الذى رفع راية النضال المسلح ثم تبعته حركة اليسار الثورى عام 1961 ..
إنتفاضات مسلحة من جهة و تغلل للمد الشيوعى فى نفوس العامة من جهة أخرى .. و بين قتلى و جرحى و اشتباكات تتجدد كل فترة و حركات ثورية يتم إنشائها و حركات أخرى تنتهى يظهر فى الأفق ضابطاً شاباً .. أسمر اللون .. حاد الملامح .. نبرة صوته متحدية إلى أبعد الحدود .. يطالب دوماً و أبداً بإقصاء الرأسمالية من البلد الفقير مؤكداً على ان الثورة الفنزويلية عام 1958 لم تصل نتائجها إلى الشعب الفقير المعدم ..
ضابطاً أصله فقير من قرية سابانيتا المعدمة إحدى قرى ولاية باريناس ..
ضابطاً إسمه #هوجو_تشافيز
ـــــ
فى الصورة :
ــــــــــــــــــــ
الديكتاتور ماركوس بيريز خيمينيز فى إحدى خطاباته بعد توليه الرئاسة رسمياً
ــــــ
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى :
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور :
https://itunes.apple.com/app/id1432249734
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ