عصر نفوذ الأتراك

الخلفاء العباسيين كانوا بيستقدموا الجنود الأتراك لأكتر من سبب .. بعضهم كان عاوز يعمل توازن فى الجيش بسبب الخلافات بين العنصر العربى والعنصر الفارسى وبعضهم إستقدمهم لثقته فيهم وبعضهم إستقدمهم بسبب قوتهم وجلدهم لإنهم جم من بلاد طقسها متقلب وصعب .. المهم إن الجنود الأتراك زادوا بالتدريج لحد ما سيطروا على كل حاجة فى البلد وإتحكموا فى مصير الخليفة نفسه .. الموضوع ده له قصة تعالوا نحكيها ..

ـــــــ

سنة 232 هجرياً إتوفى الخليفة ( هارون الواثق بالله ) أخر خلفاء الدولة فى مرحلة شبابها وعنفوانها .. تولى بعده خليفة إسمه ( جعفر المتوكل على الله ) وده يبقى حفيد هارون الرشيد .. الراجل ده مش بس مشى على سنة الخلفاء اللى قبله فى الإعتماد على الجنود الأتراك ولكن بدأ فى زيادة أعدادهم وقربهم منه جداً وفى المقابل هما ساعدوه فى تثبيت حكمه وأخمدوا كل الفتن والمؤامرات فى عهده .. أومال المشكلة بدأت إمتى ؟

بدأت لما اختار المتوكل أولاده الثلاثة فى ولاية العهد ورتبهم فخلى إبنه ( المنتصر بالله ) ولى عهده ومن بعده إبنه الثانى ( المعتز بالله ) وأخيراً إبنه الثالث ( المؤيد بالله ) .. المنتصر بالله ورغم إنه كان ولى العهد رسمياً إلا إنه كان بيغير من أخوه المعتز بالله لإنه كان مفوه وخطيب وحاد الذكاء وشكله كمان جميل .. سيبك من ده كله .. مرة أبوهم تعب ومقدرش يخطب الجمعة فى الناس فطلب من إبنه الثانى المعتز بالله إنه يخطب بداله وعندها حس المنتصر إن منصب ولاية العهد فى خطر وإن أخوه أقرب ليها من أى وقت فات .. يعمل إيه ؟ .. الحل واضح ومفيش غيرهم اللى يقدروا يساعدوه .. الأتراك ..

ــــــ

إتفق المنتصر بالله مع إثنين من قادة الأتراك إسمهم ( بغا الشرابى ) و ( باغر التركى ) على قتل أبوه وهما طبعاً ما صدقوا لإن ده فيه ضمانة لمستقبلهم فى الدولة .. فى أوائل شوال عام 247 هجرياً دخل المماليك على المتوكل فقتلوه بالسيوف وكان معاه صديقه الشاعر العباسى ( أبو الفتح بن خاقان ) فقتلوهم وأشاعوا بين الناس إن ( أبو الفتح ) هو اللى قتله وبسرعة قاموا نصبوا المنتصر بالله فى منصب الخلافة وبتنصيبه بدأت فعلياً مرحلة تاريخية إسمها ( عصر نفوذ الأتراك ) .. من اللحظة دى بيضعف منصب الخليفة بالتدريج لحد ما بتنحصر سلطاته فى السلطة الروحية مش أكثر ..

بعدها هديت الأمور وحكم المنتصر الدولة فى هدوء أول كام شهر وفى يوم من الأيام دخل المنتصر خزنة من خزائن أبوه فلقى فيها سجاجيد ومفارش فأمر بفرشها على الأرض وعندها لاحظ فيها صورة لفارس وعليه تاج ومكتوب حواليه كلام بالفارسية فطلب مترجم يترجمله المكتوب فلما جه المترجم وشه إتغير ومرضيش يتكلم فالمنتصر قاله :

( ما هذه ؟ )

فقال :

( لا معنى لها )

فألح عليه فبص له المترجم وقال :

( أنا شيرويه ابن كسرى بن هرمز .. قتلت أبى فلم أتمتع بالملك إلا ستة أشهر )

فتغير وجه المنتصر وأمر بحرق البساط رغم إنه كان منسوج بالذهب .. بعدها بدأ يكره الأتراك جداً لإنهم أغووه بقتل أبوه وكان دايماً بيقول :

( يا بغا .. أين أبى ؟ .. من قتل أبى ؟ )

ودايماً كان بيسبهم ويقول عنهم :

( هؤلاء قتلة الخلفاء )

ده خلى المماليك الأتراك تخاف لإنه بكده هيفضحهم وهيتقتلوا لو إنكشف أمرهم فقرروا الخلاص منه بسرعة واتفقوا مع طبيبه ( ابن طيفور ) إنه يسمه وقيل إنه مات بأكلة مسمومة وقيل إنه مات مخنوق والله أعلم .. المهم إنه روى عنه إن أخر ما نطق به كان :

( يا أماه .. ذهبت منى الدنيا والآخرة .. عاجلت أبى فعوجلت )

ــــــ

الأخ الثانى اللى هو ( المعتز بالله ) حكايته بقى كانت أصعب بمراحل .. لما المنتصر مات المماليك الأتراك جابوا مكانه عمه ( أحمد المستعين بالله ) ومع الوقت حصل بينهم خلاف لدرجة إنه ساب سامراء عاصمة الخلافة وقتها وراح على بغداد ورفض يرجع تانى .. يعملوا إيه وقتها ؟ .. قرروا إنهم يبايعوا ( المعتز بالله ) بعد ما خرجوه من الحبس .. يتعظ بقى المعتز من اللى حصل لأبوه وأخوه ؟ .. أبداً .. والله يا اخوانا الواحد لما بيقرأ التاريخ بيستغرب الناس دى كان فى إيه فى دماغها ..

أول ما مسك المعتز منصب الخلافة حارب عمه المستعين بالله وأمر بقتله .. بعدها عين أخوه الأصغر ( المؤيد بالله ) كولى للعهد .. بعدها عزله وأمر بربطه وضربه عقاباً له بسبب خلافات بينهم لحد ما مات من كتر الضرب .. مين كده اللى باقيلك بعد ما أبوك وعمك وإخواتك الإتنين ماتوا .. مفيش .. وطالما مفيش يبقى تستحمل اللى يحصلك ..

ــــــ

فى يوم من الأيام راحله المماليك الأتراك وطالبوه بفلوس وهدايا كعادتهم لكنه مكانش معاه فلوس كفاية بعد اللى إتصرف على حربه مع عمه فقالوله إستلف من أمك لكن أمه للأسف رفضت تسلفه ولو دينار واحد .. وأمه يا جماعة كانت جارية رومية إسمها ( قبيحة ) وقبل ما حد يستغرب من الإسم فالأسامى فى الزمن ده أحياناً كانت بتطلق على الأضداد .. يعنى ( قبيحة ) دى إتسمت كده لفرط حسنها وجمالها زى ما كانوا بيسموا العبد الأسود ( كافور ) والجارية السمراء ( فضة ) وهكذا ..

بعد أيام راح الأتراك لقصره وطالبوه بالنزول فقالهم :

( قد شربت دواء وأنا ضعيف )

فاتأكدوا إنه بيتهرب منهم فهجموا عليه وربطوه بسارية داخل بيته وكان وقتها الجو حر جداً لدرجة إنه مكانش بيقدر يقف على رجليه الإتنين مع بعض فكان بيقف على رجل واحدة لفترة وبعدها يبدل رجله التانية وفضل على حالته دى 3 أيام – وقيل 5 – وكل يوم يدخلوا عليه يطالبوه بخلع نفسه لحد ما وافق .. عندها بعتوا جابوا واحد من الأسرة العباسية إسمه ( محمد المهتدى بالله ) عشان ييجى يتسلم المنصب مكانه وبالفعل تنازل له عن الخلافة وكان فاكر إنه بكده بينجى نفسه ..

ــــــ

الحقيقة محدش يعرف العداوة الشديدة بين الأتراك والمعتز دى سببها إيه .. بقول كده ليه ؟ .. لإنه فعلاً مكانش معاه فلوس وكمان لإنه بعد تنازله عن الخلافة مكانش فى أى داعى للخلاص منه .. كان يكفى إنهم يحددوا إقامته وخلاص لكن اللى عملوه إنهم دخلوه لحمام وكان عطشان جداً وجابوله مياه مثلجة .. بالمناسبة الناس إتعلموا تبريد المياه وتحويلها لثلج سنة 400 قبل الميلاد وإبقوا فكرونى أقولكم إزاى .. المهم لما شرب المياه المثلجة دى على عطش وجوع مات بسببها ..

رواية تانية أقسى من دى قالت إنهم مموتهوش بالماء المثلج وإنما جصصوه حياً .. يعنى جبسوه وهو حى .. الرواية بتقول إنهم كتفوه وبعدها جبسوه وسابوه فى سرداب لحد ما الجبس إتجمد ومات جواه مخنوق وعندها كسروا الجبس وخرجوه .. ليه بقى عملوا كده ؟ .. عشان لما يجيبوا أعيان البلد والفقهاء والشيوخ يشوفوا جثته يتأكدوا إنه مات موتة طبيعية وإن مفيش أثار لخنق أو تعذيب أو طعن فى جسمه ..

بس يا سيدى .. دى كانت حكاية عصر نفوذ الأتراك وإزاى تغولوا على الحكم وأضعفوا الخلفاء العباسيين .. طولت عليكم معلش بس التاريخ لطيف وكله عبر وقد فاز من إعتبر ..

ــــــ

مصادر للى حابب يستزيد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( * ) تاريخ الخلفاء للسيوطى
( * ) الوافى بالوفيات للصفدى
( * ) البداية والنهاية لابن كثير
( * ) سير أعلام النبلاء للذهبى – الطبقة الرابعة عشر
( * ) الروضة الفيحاء فى أعلام النساء لياسين بن خير الله الخطيب

ــــــ