طبيعة العلاقة بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد


العلاقة بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضى الله عنهما إتسمت فى بعض الأحيان بالتوتر والحساسية وهو ما كان مدخلاً لضعاف النفوس وزارعى الفتنة لأن يطعنوا فى إثنين من كبار صحابة رسول الله ﷺ راغبين بهذا أن تهتز صورتهما فى عيون المسلمين فتهتز بالتبعية صورة الدين فرموا الصحابيان الجليلان بالشبهات والتهم التى من شأنها التقليل منهما اعتماداً على بعض الروايات المكذوبة والمشبوهة وأضافوا عليها وزادوا من عند أنفسهم بفعل حقدهم على الإسلام ورموزه ..

يقول الإمام مالك رحمه الله :

( إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح فى النبى ﷺ فلم يمكنهم ذلك فقدحوا فى أصحابه حتى يقال : رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين )

أيضاً يقول أبو زرعة الرازى رحمه الله :

( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول ﷺ عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله ﷺ وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح أولى بهم )

ومن التهم التى رموا بها عمر وخالد رضى الله عنهما أنهما كانا يكرهان بعضهما من الصغر لأنهما كانا يصطرعان فكسر خالد ساق عمر فظل عمر حاملاً له إياها لينتقم منه وبغض النظر عن صحة الرواية من عدمها فمرادهم هنا هو إنتقاص عمر وإظهاره بأنه صاحب هوى وبالتالى فهو غير أهل لقيادة المسلمين كون هواه هو المتحكم فى قراراته .. أيضاً ادعوا على خالد شدته وقسوته وأنها السبب فى عزل عمر له دون النظر إلى الظروف المحيطة بتلك القرارات واعتمدوا على أضعف الروايات فى ادعاءاتهم تلك ..

ـــــ

وإذا ما نظرنا لمسألة عزل عمر لخالد من قيادة الجيوش فهناك عدة أسباب ليس من بينها تلك الكراهية المزعومة ..

1 – أول الأسباب أن عمر خشى من إفتتان الناس بخالد وتعلق قلوبهم به ونسيانهم أن النصر من عند الله لا من عند خالد أو عمر أو أى شخص .. خالد لم يخسر معركة واحدة فى حياته لا فى إسلام ولا فى جاهلية والجنود وقتها كانت تتمنى أن تقاتل تحت إمرته ليقينهم أن الإنتصار سيكون حليفهم وبهذا فقد حرص عمر على حماية جانب العقيدة لدى خالد أولاً ولدى عموم المسلمين ثانياً لأن خالد مع ما أعطاه الله من سلامة الرأى ومكيدة الحرب والشجاعة والقوة والجَلَد وحسن التخطيط ربما اغتر بنفسه وظن أنه قادر على فعل المستحيل ..

وقد روى ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال :

( لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى حتى يعلما أنَّ الله إنما كان ينصر عباده وليس إياهما كان ينصر )

أما ابن عساكر فقد أورد أن عمر قال :

( أما والله لإن صَيّر الله هذا الأمر إلى لأعزلن المثنى بن حارثة عن العراق وخالد بن الوليد عن الشام حتى يعلما إنما نصر الله دينه ليس إياهما ما نصر )

و قد روى أن عمر خرج على الناس يعلمهم بأسباب العزل فقال :

( إنى لم أعزل خالداً عن سخطة أو جناية ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا بعرض فتنة )

ـــــ

2 – ثانى الأسباب هو توزيع خالد للغنائم والعطايا دون الرجوع إلى الخليفة فكان يقسم المال فى أهل الغنائم بما يترائى له دون الرجوع إلى أبى بكر وقد روى أنه لما توفى خالد قال عمر :

( كان و الله سداداً لنحور العدو .. ميمون النقيبة )

فقال له على بن أبى طالب :

( فلم عزلته ؟ )

قال :

( لبذله المال لذوى الشرف واللسان )

وروى أنه قال أيضاً :

( والله ما نقمت على خالد فى شيء إلا فى إعطائه المال )

وكان عمر منكراً لذلك وأشار على أبو بكر بأن يكتب إليه بألا يعطى شيئاً إلا بأمره وإلا فليعزله فكتب إليه بالفعل وجاءه رد خالد عليه :

( إما أن تدعنى وعملى وإلا فشأنك بعملك )

وكان يقصد أنك وليتنى الأمر فاتركنى أتصرف فى حدود ما منحتنى من إختصاصات وكان أبو بكر رضى الله عنه يترك مساحة كبيرة من الحرية لقادته فى التصرف بما تقتضيه الأمور دون الرجوع إليه فلما تولى عمر كتب إلى خالد أن لا تعطِ شاة ولا بعيراً إلا بأمرى فجاءه رد خالد مماثلاً لما سبق فقال عمر وقتها :

( ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبى بكر بأمر لم أنفذه )

فقام بعزل خالد وكان يدعوه كل فترة أن يعمل فيأبى خالد إلا أن ينفذ الأمر بطريقته الخاصة فيأبى عمر توليته حتى نُقل عن عمر قوله عن خالد بعد وفاته :

( إنى ما عتبت على خالد إلا فى تقدمه – أى تقدمه الصفوف فى الحرب – و ما كان يصنع فى المال )

وفى تلك النقطة يجب ذكر إحدى أشهر الحوادث بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد حين علم عمر أن خالد قد أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم فغضب غضباً شديداً وقال :

( أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فاعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان )

ثم كتب عمر إلى أبو عبيدة بن الجراح أن يستدعى خالد ويسأله عن مصدر المال إذا كان من ماله أم من غارة أغارها على الروم دون علمه – أى عمر – وذكر فى رسالته لأبو عبيدة أنه إن كان من ماله فقد أسرف وإن كان من غارة قام بها دون علم الخليفة فقد اعترف بخيانته وأمر بأن يعزله فى الحالتين ويقاسمه ماله ففعل أبو عبيدة ما أمره به عمر حتى لم يبق إلا نعليه فأعطاه خالد أحدهما إمتثالاً لأوامر عمر بن الخطاب ..

وأخيراً نقول أن خالد إجتهد فى أمر إنفاق المال وقد تأسى فى هذا بما فعله رسول الله ﷺ عندما أعطى أهل الشرف من المؤلفة قلوبهم فى حنين وغيرها وهو ما يؤكده ما قاله خالد بنفسه عندما سألوه عن سبب عزل عمر له فقال :

( كنت فى حرب ومكايدة .. وكنت شاهداً وكان غائباً – يعنى عمر – فكنت أعطى ذلك فخالفه ذلك من أمرى )

ـــــ

3 – ثالث الأسباب هى شدة خالد والتى لا تتوافق مع طبيعة عمر الشديدة أيضاً وكان عمر يستحسن أن تكون طبيعة ولى الأمر مغايرة لطبيعة قادته ونوابه فيعتدل بهذا ميزانهما معاً وقد رأى أن فى سيف خالد رهقاً مستدلاً بقتله لأسرى بنى جَذيمة ومالك بن نويرة ونصح أبو بكر بعزله من أجل ذلك إلا أنه رفض فلما آلت إليه الأمور عزله ..

وربما يعد الخلاف هنا أمر إجتهادى لا أكثر حيث تعطى بعض الروايات لخالد العذر فى إستخدام الشدة بما لها من أثر فى نفوس أعداء الدين .. نعم ربما كان سيف خالد بها شدة ورهق ولكنه فى هذا لا يعدو عن كونه مجتهداً ويكفيه قول رسول الله ﷺ :

( لا تُؤذوا خالداً .. فإنه سيف من سيوف الله صبَّه اللهُ على الكفار )

ـــــ

أما عن طبيعة العلاقة بين الرجلين فيكفينا الإستدلال بما روى على لسانهما فى حق بعضهما البعض فقد روى أبا الدرداء أن خالد كان يرى عمر بن الخطاب باب مغلق دون الفتن والمنكرات حين قال له :

( والله يا أبا الدرداء .. لئن مات عمر لترين أموراً تنكرها )

وروى عن خالد أنه لما اشتد مرضه وكان على فراش الموت قال فى حق عمر بن الخطاب :

( قد كنت وجدت عليه فى نفسى فى أمور لما تدبرتها فى مرضى هذا عرفت أن عمراً كان يريد لله بكل ما فعل .. كنت وجدت عليه فى نفسى حين بعث إلى من يقاسمنى مالى حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل فرأيته فعل ذلك بغيرى من أهل السابقة ومن شهد بدراً .. وكان يغلظ على وكانت غلظته على غيرى نحواً من غلظته على .. وكنت أدل عليه بقرابة فرأيته لا يبالى قريباً ولا لوم لائم فى غير الله )

ثم أضاف :

( فذلك الذى أذهب ما كنت أجد عليه .. وكان يكثر غِلّى عنده وما كان ذلك إلا على النظير .. كنت فى حرب ومكابدة وكنت شاهداً وكان غائباً فكنت أعطى على ذلك فخالفه ذلك من أمرى وقد جعلت وصيتى وتركتى وإنفاذ عهدى إلى عمر بن الخطاب )

ـــــ

فى المقابل فإن عمر بن الخطاب قبل وصيته ونفذها ولو كان بينهما ما يسوء ما كان خالد أوصى له وما كان قبل عمر الوصية وما فيها من مسئولية التنفيذ .. وهناك الكثير من المواقف التى تثبت حب عمر لخالد ومنها ما روى عن هشام بن البخترى حين دخل فى جمع من بنى مخزوم على عمر بن الخطاب فقال له :

( يا هشام .. أنشدنى شعرك فى خالد )

فلما انتهى قال له عمر :

( قصرت فى الثناء على أبى سليمان رحمه الله إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله وإن كان الشامت به لمتعرضاً لمقت الله )

وكان يقول :

( رحم الله أبا سليمان .. لقد كنا نظن به أموراً ما كانت )

وقال أيضاً :

( رحم الله أبا بكر .. لقد كان أعلم بالرجال منى )

وقد روى أحد شيوخ بنى غفار فقال سمعت عمر بن الخطاب بعد أن مات خالد بن الوليد يقول :

( قد ثَلَم فى الإسلام ثُلمة لا تُرتق )

فقلت :

( يا أمير المؤمنين .. لم يكن رأيك فيه فى حياته على هذا )

فقال :

( ندمت على ما كان منى إليه )

ـــــ

روى أيضاً أنه لما توفى خالد جعلت أمه تندبه وتقول :

( أنت خير من ألف ألف من القوم إذا ما كبت وجوه الرجال )

فرآها عمر بن الخطاب فقال :

( صدقت .. والله إن كان لكذلك )

ـــــ

ومن أشهر الروايات التى رويت فى هذا الشأن أنه لما مات خالد اجتمع نسوة بنو المغيرة فى داره يبكونه فقيل لعمر ألا تنهاهن فقال :

( وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة .. على مثله تبكى البواكى )

ـــــ

مصادر :
ـــــــــــــ

( * ) الصحابة ومكانتهم عند المسلمين للدكتور محمود عيدان – الفصل السادس – ص 176
( * ) تاريخ دمشق لابن عساكر – ترجمة أبى زرعة
( * ) سير أعلام النبلاء للذهبى – الجزء الأول – ص 383
( * ) تاريخ دمشق لابن عساكر – الجزء السادس عشر – ص 262 : 271
( * ) الأساس فى السنة وفقهها – ص 1949
( * ) فضائل الصحابة للألبانى – ص 243
( * ) جمع الجوامع للسيوطى – الجزء الحادى عشر – ص 326
( * ) البداية والنهاية – الجزء السابع – ص 117

ـــــ