سيراليون .. بكاء بعد معاناه

النهاردة شفت بالصدفة صورة لمحمد كمارا حارس مرمى منتخب سيراليون وهو بيعيط من الفرحة لما اختاروه أحسن لاعب فى مباراتهم ضد الجزائر .. على مستوى كرة القدم فاللى عملته سيراليون فى بطولة إفريقيا لحد دلوقت إنجاز .. دولة مصعدتش لكأس إفريقيا من 20 سنة وأول ما تصعد تتعادل مع الجزائر وبعدها كوت ديفوار يبقى ده إنجاز بلا شك .. على المستوى الإنسانى بقى فكون إن سيراليون قدرت تكون منتخب لكرة قدم بعد كل اللى مرت بيه فده بقى اللى إسمه إعجاز ..

ـــــ

سيراليون كانت مستعمرة إنجليزية لحد الستينات .. مرت بمفاوضات شاقة جداً لحد ما نالت إستقلالها وبالفعل سنة 1967 حصلت إنتخابات فاز بيها حزب المؤتمر الشعبى .. فى التشكيل الوزارى للحزب كان مفترض اللى هيتعين رئيس وزراء واحد إسمه ( سياكا ستيفنز – Siaka Stevens ) .. الراجل ده يا عينى ملحقش يتهنى بالمنصب بتاعه .. بعد توليه المسئولية بساعات حصل إنقلاب عسكرى وتم القبض عليه قبل ما يخرج من الحبس ويتنفى لدولة غينيا .. بعد سنة تقريباً بيرجع على سيراليون مرة تانية بعد مساعدة رئيس الأركان ( جون أمادو بانجورا – John Amadu Bangura )

الإنقلاب ده كان السبب الرئيسى فى إصابة ( ستيفنز ) بالخوف المبالغ فيه من فكرة الإنقلاب عليه وده كان واضح لما قدر إنه يفوز بالرئاسة سنة 1971 فى أول إنتخابات رئاسية بعد الإستقلال .. أول القصيدة كانت فى إنتخابات 1973 بعد ما عملوا دستور جديد .. رجالة ستيفنز نزلوا ضرب وتكسير فى كل حاجة وأعمال عنف ضد المعارضين لحد ما قاطع الإنتخابات أقوى حزب معارض وهو ( حزب شعب سيراليون ) .. ده كان معناه ببساطه فوز سياكا ستيفنز ورجالته بكل المناصب المتاحة ..

حصل إيه بعد كده ؟ .. خد عندك بقى .. خفض تدعيم الجيش تدريجياً لحد ما وقف الدعم خالص عشان يهمش دوره ويمنع العسكريين من الإنقلاب عليه .. ابتكر وحدة أمنية سماها ( وحدة الأمن الداخلى ) وخلاها بديل للجيش وتكون تابعه ليه شخصياً ضم فيها كتير من الشباب العاطل عن العمل ومدمنين المخدرات وخلاهم بمثابة الحرس الشخصى ليه .. مع نهاية السبعينات كان إتجنن تماماً .. عمل إستفتاء على دستور جديد بينص على إلغاء كل الأحزاب مع الإبقاء على حزب واحد بس .. اللى هو حزبه طبعاً .. تخيل إن نتيجة الموافقين على الإستفتاء وصلت ل 97.1 % رغم إن محدش راح اللجان تقريباً .. بعد إقرار الدستور وصل بيه الجنون إنه خير نواب المعارضة فى مجلس النواب بين الإنضمام لحزبه أو خسارة مقاعدهم ونزع الصفة النيابية عنهم .. الصحافة الأجنبية طبعاً فضحت التزوير اللى حصل ولما سألته عن نظام الحزب الأوحد قالهم إن النظام ده مناسب لإفريقيا أكتر من النظام الديموقراطى الغربى ..

لو فاكر إن جنون الرئيس ستيفنز وقف لحد هنا تبقى فاهم غلط .. الراجل كان عنده فوبيا مرضية من فكرة الإنقلاب عليه لدرجة إنه أعدم أى حد أظهر العداء ليه حتى لو كان من أكبر الداعمين ليه قبل كده .. رئيس الأركان ( جون أمادو بانجورا ) اللى إتكلمنا عليه فى الأول كان واحد من اللى أعدمهم رغم إنه كان السبب فى رجوعه للبلاد مرة تانية بعد إنقلاب 1967 .. هو اللى رجعه تانى من المنفى وهو اللى ساعده فى الوصول لمنصب الرئاسة .. ( سياكا ستيفنز ) نسى كل الأفضال دى وأعدمه سنة 1970 بتهمة الخيانة لما حس إنه بدأ ينتقده علانية وبالتالى بقى بيمثل خطر على منصبه .. وياريت بعد ده كله الإعدام كان بشكل طبيعى .. ( بانجورا ) لأخر لحظة مكانش مصدق إنه هيتم إعدامه وإن أكيد ( سياكا ستيفنز ) هيوقف الحكم ورفض إنه يستجيب للجنود فضربته العساكر لحد ما مات من كتر الضرب ويقال إنهم رموا جثته فى حامض كبريتيك مركز عشان ميبانش لجثته أثر .. أما الرواية الأدق فقالت إن ستيفنز أمر بدفنه تحت طريق سفر كان تحت الإنشاء ومتمش الإعلان عن مكانه تحديداً عشان ميبقاش بطل فى عين الشعب وقبره يتحول لمزار ..

إعدام بانجورا كان أشهر حالة من حالات إعدام المعارضين إنما مكانش الحالة الوحيدة .. فى أواخر 1974 تم إعدام وزير المالية السابق ( محمد فورنا – Mohamed Forna ) مع 14 شخص تانى والتهمة طبعاً معروفة .. الخيانة .. وكل ده عشان أعلن معارضته لأسلوب إدارته الإقتصادى بعد ما وصل الفساد لمستويات غير طبيعية لدرجة إن الدولة عجزت عن توفير الخدمات الأساسية لغالبية الشعب ونسبة التسرب من التعليم وصلت لدرجة قياسية بسبب عدم وجود مدارس كافية ومعدل الفقر تضاعف خلال الكام سنة اللى تولى فيهم الرئيس ستيفنز ..

ـــــ

فى أواخر سنة 1985 أصيب ( سياكا ستيفنز ) بالسرطان وصحته تدهورت وبدل ما يفكر فى وضعه الصحى صب كامل تركيزه على تولية شخص يدين ليه بالولاء عشان ميحاسبوش على جرايمه اللى إرتكبها خلال فترة رئاسته .. وبالفعل بعد تهديد وإبعاد كل المرشحين المحتملين مفضلش غير الشخص اللى كان عاوزه وهو اللواء ( جوزيف سيدو موموه – Joseph Saidu Momoh ) .. خطة ستيفنز يمكن نجحت فى البداية لكن القدر مسابلوش وقت طويل للتمتع بيها .. بعد سنتين تقريباً وتحديداً فى مايو 1988 بيتوفى ( سياكا ستيفنز ) من مضاعفات المرض اللعين ..

خلال أربع سنين أو أقل بعد وفاة ستيفنز حاول ( جوزيف موموه ) إنه يحسن الوضع الديموقراطى فى البلد فأعلن عن دستور جديد بيلغى فكرة الحزب الواحد وبيسمح بالتعددية لكن سبحان الله وكأن مش مكتوب للشعب الغلبان ده إنه يرتاح دخلت البلد سنة 1991 فى حرب أهلية بين الجيش النظامى وبين قوات المتمردين بقيادة ( فوداى سانكوه – Foday Sankoh ) وده هنرجعله كمان شوية ..

سيراليون وقتها كانت مستنزفة مادياً بشكل بشع .. دولة فقيرة بتعانى من ديكتاتورية مرعبة وفساد مستشرى من سنين طويلة وزاد عليها حرب أهلية .. دى ظروف تقصم ظهر أى دولة .. فى ظل الظروف دى كان طبيعى إن يحصل بعض التقصير فى الخدمات لكن للأسف التقصير توسع وشمل الجنود النظامية على الجبهة .. مجموعة من الجنود فى منطقة إسمها كايلاهون مجالهومش دعم كافى من الحكومة سواء معدات عسكرية أو ذخائر لدرجة إنهم كانوا بيحاربوا بأحذية مقطعة لإن الحكومة مبعتتلهومش أحذية كفاية .. زاد وغطى إن مرتبات الجنود متدفعتش فى مواعيدها وإتأخرت عليهم كذا مرة .. الوضع ده خلى مجموعة مكونة من 6 جنود يعلنوا التمرد .. قائد المجموعة دى كان مجرد نقيب فى الجيش عمره 25 سنة بالظبط .. شاب إسمه ( فالنتين ستراسر – Valentine Strasser )

ـــــ

فى إبريل 1992 جمع ( ستراسر ) رجالته وطلعوا على العاصمة ( فرى تاون ) وبعد شوية فوضى إنضم ليهم عدد من الجنود الكارهين للرئيس فالراجل لقى نفسه لوحده فخد بعضه وهرب على غينيا وبهروبه حصل فراغ سياسى اتقدمله ( ستراسر ) وأعلن نفسه رئيس للبلاد عشان يبقى أصغر رئيس جمهورية فى العالم وقتها .. فجأة لقى الشعب المسكين نفسه متحاصر بين طرفين .. طرف بيقوده ( ستراسر ) عديم الخبرة وطرف بيقوده شخص متطرف إسمه ( فوداى سانكوه )

أما ستراسر فقعد فى السلطة 3 سنين ونص تقريباً وبعدها تم الإنقلاب عليه من النائب بتاعه ودراعه اليمين ( جوليوس مادا بيو – Julius Maada Bio ) وبالمناسبة ( مادا بيو ) يبقى الرئيس الحالى لسيراليون .. ليه تم الإنقلاب عليه ؟ .. لإنه كان قليل الخبرة زى ما قلنا وأعوانه كانوا رافضين لأسلوبه الإدارى .. طبعاً وضع ستراسر بعد الإنقلاب كان مختلف خالص .. حاول إنه يدرس القانون تبع الأمم المتحدة لكنه مكملش دراسته فحاول يقدم طلب لجوء لإنجلترا لكن طلبه إترفض بعدها حاول يدخل جامبيا لكن السلطات هناك رفضت دخوله فاضطر إنه يرجع لسيراليون وهناك اشتغل فى معهد لتعليم الكمبيوتر وعاش من مرتبه مع معاشه التقاعدى من الجيش .. مآساة ستراسر استمرت لما أصيب بمرض أجبر الأطباء على بتر رجله الشمال وفى ظل حالته دى قرر الرئيس مساعدته عن طريق تخصيص شقة يعيش فيها ..

ـــــ

على الطرف التانى المتمردين كانوا مسيطرين على أجزاء كبيرة من البلد و ( فوداى سانكوه ) نازل دبح فى كل اللى يثبت تورطهم فى التعاون مع الحكومة .. ويا ريت الموضوع يقف عند القتل بس .. الراجل ده كان مجرم لدرجة لا يتخيلها عقل .. قرى كاملة كان بيدخلها المتمردين يغتصبوا نساءها ويستعبدوا أطفالها .. الراجل كان بياخد الأطفال يجندهم فى قواته بالعافية ويقتل أهاليهم ويغتصب أمهاتهم .. خلال فترة الحرب الأهلية إتقتل فوق ال 50 ألف شخص وإتهجر فوق النص مليون إنسان .. حتى أسماء عملياتهم العسكرية كانت بتحمل أسماء مرعبة زى ( عملية لا شيء حى ) أو ( عملية حرق البيوت ) أو ( عملية إدفع لنفسك )

الراجل المجنون ده وصلت ممارساته لحد إبتداع طريقة جديدة لعقاب المعارضين ليه .. المتمردين كانوا بيقطعوا الأشجار العملاقة وبعدين يجمعوا المدنيين فى صف طويل قدامها ويخلوهم يمدوا إيديهم على الشجرة والجنود تعدى عليهم بسواطير ويقطعوا إيديهم واللى يعيش منهم هيكمل طول عمره بعاهة مستديمة واللى ميلحقش نفسه فى المستشفى يموت عادى .. كانوا بيجمعوا الأطفال وأمهاتهم وينيموا الأمهات على ضهرها ويضربوهم على ركبهم لحد ما يكسروها تماماً وكل ده قدام أطفالهم .. أسف والله إنى بوصف المشاهد دى بس ده اللى حصل للأسف .. بسبب الحيوان ده سيراليون النهاردة صاحبة أكبر عدد معاقين فى العالم ..

الحمد لله الحرب الأهلية إنتهت بهزيمة المتمردين و ( فوداى سانكوه ) هرب على نيجيريا وهناك إتقبض عليه وتم تسليمه لبريطانيا عشان يتحاكم على جرايمه وبالفعل إتوجهتله 17 تهمة كلهم يعتبروا جرائم ضد الإنسانية لكنه للأسف توفى بعد أقل من 3 سنين بعد ما جاتله سكتة دماغية ..

ـــــ

الشعب السيراليونى شاف كتير وزيه زى شعوب كتير فى إفريقيا عاشت عمرها كله فى شقاء وعذاب بسبب التكالب على السلطة وحب الدنيا .. يمكن دلوقت حالهم مختلفش كتير إقتصادياً لكنهم على الأقل تجنبوا القتل بدون إبداء أسباب .. تجنبوا إنهم يكونوا مجرد وقود لآلة الحرب اللى كانت بتحصد أرواحهم يومياً .. يمكن مش عايشين أفضل وضع مقارنة بشعوب إفريقيا لكن على الأقل بقى عندهم أمل يكملوا فى بطولة إفريقيا ويشوفوا منتخبهم بيحقق حاجة .. أمل بيخلى الحارس ( محمد كمارا ) يبكى لمجرد حصوله على جايزة تشجيعية زى جايزة أفضل لاعب فى المباراة ..

ـــــ