ذكرى وفاة الناصر صلاح الدين الأيوبى

فى أوائل عام 589 هجرياً كان عمر الملك الناصر صلاح الدين قد إقترب من السابعة والخمسين ولكن ما واجهه فى حياته من مشاق الجهاد جعل جسده يعتل ويثقل ويفتقد الكثير من حيويته وإن كانت تلك الأعراض لم تقلل من عزيمته .. فى اليوم الأول من شهر صفر خرج للصيد رفقة أخاه الملك العادل شرقى دمشق وغاب فى رحلته أحد عشر يوماً قبل أن يعود إلى دمشق مرة أخرى ويصف القاضى بهاء الدين بن شداد فى كتابه ( النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ) أدق تفاصيل تلك الأيام فروى أنه كان يعتذر عن مقابلة الوفود التى تأتيه من الفرنجة بل إنه كان يعتذر عن مقابلة أمراؤه وذكر أنه افتقد الشهية للطعام رغم أن جسده بدأ فى الإمتلاء وهو ما أصابه بنوع من الكسل وثقل الحركة وقلة النشاط ..

ويروى القاضى ابن شداد أخر يوم قبل مرضه أنه كان صباح الجمعة 15 صفر 589 هجرياً وكان يوماً يصل فيه فوج من حجاج الشام فخرج مبكراً ومهد لهم الطريق إلى المدينة وأزاح الأوحال التى قد تعيقهم بسبب مصادفة تلك الأيام لموجة مطر شديدة ووقف فى إستقبالهم إلى أن أتوا فلما رآهم دمعت عيناه وشعر بخسارة عظيمة على ما فاته من فريضة الحج .. ويستمر ابن شداد فى وصفه فيقول أنه رأى السلطان ذلك اليوم لا يلبس ( كزاغنده ) وهو رداء يشبه القفطان مصنوع من قماش متين وذلك على غير عادته فاقترب منه ونبهه إلى هذا فيقول كأن السلطان استيقظ على تنبيهه وكأنه كان لا يعلم أنه لا يلبسه فاستدار ونادى على ( الزُردكماش ) وهو المسئول عن مخازن السلاح والعتاد فلم يجده فرأى القاضى فى هذا عجباً وحدث نفسه مندهشاً وقال :

( سلطان يطلب ما لابد منه فى عادته ولا يجده !! )

فتشائم القاضى مما رآه ذلك اليوم ولكنه أخفى ذلك عنه فما مرت تلك الليلة إلا ومرض صلاح الدين بمرض موته وهو الحمى الصفراوية ..

ـــــ

فى صباح السبت 16 صفر 589 هجرياً أصبح صلاح الدين وعليه آثار الحمى ولم يخرج إلى الناس فذهب إليه بعض رجال دولته على رأسهم القاضى الفاضل والقاضى ابن شداد فأخبرهم عن آلامه التى شعر بها فى الليل وقلة نومه واستأنس بالحديث معهم إلى الظهيرة ثم تركوه وخرجوا فإذا بالغداء قد تجهز فى الإيوان القبلى فلما دخل ابن شداد وجد ابنه الملك الأفضل يجلس مكانه فاستوحش ذلك ورفض أن يأكل وخرج وقد تطير من هذا ..

ومن الأمارات أيضاً التى دلت على دنو أجله رحمه الله هو غياب طبيبه الخاص فى ذلك الوقت فعرضوه على أطباء أخرين فرأوا أن يُفَصّدوه – أى يحدثوا شق فى الجسد بهدف إسالة الدم الفاسد – ففعلوا ذلك ولكنه لم يتحسن وتيبس جسده وقلت رطوبته .. ويروى القاضى ابن شداد موقفاً يدل على كرم أخلاق صلاح الدين حيث قال أنهم فى اليوم السادس لمرضه أجلسوه وأسندوا ظهره إلى وسادة وأحضروا له ماء فاتر ليشربه فاشتكى من حرارته فأتوا له بواحد أخر فاشتكى من برودته ولم يغضب ولم يتضايق ولكنه لم يزد على أن قال :

( سبحان الله .. لا يمكن لأحد تعديل الماء )

فلما خرج المحيطين به قال القاضى الفاضل للقاضى ابن شداد :

( أبصر هذه الأخلاق التى قد أشرف المسلمون على مفارقتها .. والله لو أن هذا بعض الناس كان قد ضرب بالقدح رأس من أحضره )

ــــــ

اشتد المرض على صلاح الدين فى الأيام التالية حتى أصابته غيبوبة فى اليوم التاسع لمرضه وفى اليوم العاشر أعطاه الأطباء دواء ساهم فى تحسن حالته نسبياً فاستفاق وتناول ماء الشعير وبدأ فى التعرق فظن الناس أنما جسده يتحسن وأنه فى طريقه إلى الشفاء ولكن ما حدث أن التعرق زاد عليه حتى قيل أن العرق أفرط ونفذ إلى الفراش ثم إلى الأرض وهو ما يعنى أن صلاح الدين يعانى جفافاً شديداً لا حيلة لهم بعلاجه وكان ذلك فى اليوم الحادى عشر لمرضه 26 صفر 589 هجرياً ..

وفى الليلة الأخيرة .. ليلة 27 صفر زاره القضاة والأمراء على عادتهم ليطمئنوا على حالته وعلموا أنه لازال على حاله فعرض الملك الأفضل على القاضى ابن شداد والقاضى الفاضل أن يبيتا ليلتهما معه فرفضا لأن الناس تنتظر الأخبار منهما بعد نزولهما وإن باتا الليلة فى القصر سرت الشائعات بوفاة السلطان وربما تحدث قلاقل فى الدولة وتزيد عمليات السرقة والنهب وعرضا أن يأتى ( الشيخ أبى جعفر ) ليبيت معه حتى إذا احتضر لقنه الشهادة وذكره بالله ..

بات الشيخ أبى جعفر ليلته يقرأ القرءان بجوار السلطان وكان غائباً عن الوعى منذ الليلة التاسعة لمرضه لا يستفيق إلا للحظات فلما وصل الشيخ إلى آية :

( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ) ( * ) الحشر – 22

سمع السلطان يغمغم :

( صحيح )

وقد توفى فى قلعة دمشق صباح يوم الأربعاء 27 صفر 589 هجرياً – 4 مارس 1193 ميلادياً بعد صلاة الصبح ويروى الشيخ أبى جعفر فيقول أن روحه فاضت إلى بارئها عندما وصل إلى آية :

(لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( * ) الرعد – 30

فرآه يتبسم ويتهلل وجهه ثم سلم أمره إلى الله ..

ـــــ

أما عن تجهيزه فقد تولاه القاضى الفاضل والقاضى ابن شداد وغسله خطيب دمشق ( الفقيه الدَّوْلعى ) ودفن فى دمشق فيما يعرف الآن بالمدرسة العزيزية قرب الجامع الأموى وقد حزن عليه الناس حزناً لم يُرى مثله منذ عهد الخلفاء الراشدين حسب إجماع المؤرخين وقد جلس ابنه الأفضل يقبل فيه العزاء ثلاثة أيام ثم أرسل إلى أخوته وأعمامه وأخبرهم بالخبر وأمرهم بالحضور وكان من جملة ما كُتب خطاب تعزية كتبه القاضى الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب قال فيه :

( ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ ( * ) الأحزاب – 21 ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ ( * ) الحج – 1 .. كتبت إلى مولانا الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف من السلف فى الساعة المذكورة وقد زُلزل المسلمون زلزالاً شديداً .. وقد حضرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر .. وقد ودعت أباك ومخدومى وداعاً لا تلاقى بعده وقبلت وجهه عنى وعنك وأسلمته إلى الله وحده .. مغلوب الحيلة .. ضعيف القوة .. راضياً عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله .. وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعمدة ما لم يدفع البلاء ولا ما يرد القضاء .. تدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا بك يا يوسف لمحزونون .. وأما الوصايا فما تحتاج إليها والأراء فقد شغلنى المصاب عنها .. وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته )

وقد حصروا تركته فلم يجدوا عنده إلا ديناراً واحداً وستة وثلاثون درهماً – وقيل سبعة وأربعون – وأنه لم يترك وراءه مِلكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك ..

ـــــ

توفى صلاح الدين بعد أن جاهد فى الله حق الجهاد فجمع كلمة الأمة ووحد صفوفها وجعلها قوة لا يستهان بها واسترد الكثير من أراض المسلمين التى وقعت فى أيدى الصليبيين وعلى رأسها بيت المقدس .. عاش حياته مخلصاُ لله ومحباً للجهاد ولولا ظروف فرضت عليه لكان أكمل جهاده ضد الصليبيين ولم يوقع على معاهدة الصلح ولكنها إرادة الله .. يقول ابن شداد :

( فإنه قال لى فى بعض محاوراته فى الصلح .. أخاف أن أصالح وما أدرى أيش – أى شيء – يكون منى فيقوى هذا العدو وقد بقى لهم هذه البلاد فيخرجون لاستعادة بقية بلادهم .. وترى كل واحد من هؤلاء الجماعة قد قعد فى رأس تله وقال لا أنزل ويهلك المسلمون )

توفى وهو الرجل الكريم الحليم الرحيم المتجاوز عن ذلات من كرهوه والمسامح لكل من رماه بكلمة أو حتى فعل .. يروى أنه لما أراد دخول دمشق أول مرة بعد أن دعاه أميرها واجهه واحد من أمراء حلب يدعى ( قطب الدين ينال بن حسان ) وخاطبه خطاباً شديداً ليس للإحسان فيه مكان يريد أن يعيده إلى مصر مرة أخرى فقال :

( هذه السيوف التى ملكتك مصر – وأشار إلى سيفه – إليها تردك وعما تصديت له تصدك )

فتغافل عنه وخاطبه باللين وأوضح له أنه إنما جاء لرعاية ( الملك الصالح بن نور الدين زنكى ) ولإعادة الدولة إلى ما كانت عليهم فما كان من قطب الدين إلا أن زاد فى تجاوزه وقال :

( أنت تريد الملك لنفسك .. ونحن لا ننزع فى قوسك .. ولا نأنس بأنسك .. ولا نرتاع لجرسك .. ولا نبنى على أُسَّك – أى أساسك – فارجع حيث جئت أو أجهد واصنع ما شئت .. ولا تطمع فيما ليس فيه مطمع ولا تطلع حيث ما لسعودك فيه مطلع )

وكان قد كتب إلى أمراء الشام لما رأى الخلاف بينهم مستعراً بغرض السيطرة على ( الملك الصالح ) ليستأثروا بالمُلك من دونه أرسل رسالة إلى حاكم دمشق شمس الدين بن المقدم قال فيها :

( أنا أحق برعى العهود والسعى المحمود .. فإنه إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة .. وضاقت المناهج المتسعة .. وانفردت مصر عن الشام وطمع أهل الكفر فى بلاد الإسلام )

فلما خوفه شمس الدين من ظن الناس به سوء وأنه إنما أراد الملك لنفسه قال له :

( إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة .. والمحبة تظهر آثارها عند تكاثر العداة .. وبالجملة فأنا فى واد والظانون بى ظن السوء فى واد .. ولنا من الصلاح مراد لن يبعدنا عنه مراد .. ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح ولا لمن ألقى السلاح إنك جارح .. وما مرادنا إلا مصلحة تؤثر لا فتنة تثار .. فلو زدنا على غير هذا السبيل لما سلكنا مراجعة الخطاب ومطالعة الكتاب .. فلا يُحمل أمرنا إلا على أحسنه ولا يُظن بنا إلا الخير الذى طبعنا أخص بوجوده من معدنه )

فكان رحمه الله صادق النية عاقد العزم على توحيد الأمة حتى لو ظن به الظانون شراً .. وكان يبادر بالحسنى فإن قبلوا كان خيراً وإن رفضوا جالدهم فإن قدر عليهم عفى عنهم ولم ينتقم لنفسه ولو لمرة واحدة وكان هدف الوحدة عنده أسمى وأولى حتى تحقق على يديه إسترداد بيت المقدس وتأسست فى وجوده دولة إسلامية قوية تواجه الصليبيين وتردهم إلى بلادهم بعد أن استغلوا فترة تراجع الدولة الإسلامية وأنشبوا أنيابهم فى فلسطين وكثير من بلاد الشام ..

اليوم هو ذكرى وفاة سلطان المسلمين صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذى رحمه الله وجزاه الله عنا وعن سائر المسلمين خيراً ورفع درجته وأعلى منزلته .. اللهم اجمعنا به وبنبينا وحبيبنا محمد ﷺ فى جنات العلى إنك ولى ذلك والقادر عليه ..

ـــــ

مصادر :
ــــــــــــ

( * ) سير أعلام النبلاء للذهبى – الجزء الحادى والعشرون ص 289 : 290
( * ) مختصر سنا البرق الشامى للفتح بن على البندارى – الجزء الأول ص 30
( * ) البداية والنهاية لابن كثير – الجزء الثالث عشر ص 2 : 4
( * ) الكامل فى التاريخ لابن الأثير ( 12/96 – ص 1829 )
( * ) الروضتين لأبو شامة – الجزء الرابع ص 192 : 214

ـــــ