لا شك أن من أهم الصفات التى يتوجب على المسلم التحلى بها صفة الحِلم .. ورسول الله ﷺ هو خير المثل لكل مسلم أراد التحلى بتلك الصفة كونه ﷺ أحلم خلق الله وأصبرهم على الأذى فكان حلمه على من جهل عليه عظيم وعفوه عمّن ظلمه جليل ولم يعرف عنه أبداً أنه غضب لنفسه ولو لمرة واحدة وإنما كان غضبه لإنتهاك حرمات الله عز وجل فقط ..
ولرسول الله ﷺ مواقف كثيرة تدل على رحمته وعفوه واتساع صدره ومنها ما حدث له بعد وفاة زوجته السيدة خديجة وعمه أبو طالب حيث استغل سادات قريش تلك الحوادث وزادوا فى أذاهم للنبى ﷺ حتى ضاقت عليه أرض مكة فقرر اللجوء إلى الطائف حيث قبيلة ثقيف وهناك عرض الإسلام على سادات القوم ودعاهم إلى الله فما وجد منهم غير قسوة الرد وسوء الحديث ولم يكتفوا بذلك وإنما سلطوا عليه العبيد والسفهاء والأطفال يتبعونه فيسبونه ويلقون عليه الحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين فسار النبى وقد أصابه الهم والغم وغلبه التعب وسقط مغشياً عليه فلما أفاق وجد جبريل عليه السلام قائم عنده يخبره بأن الله أرسل ملك الجبال برسالة يقول فيها :
( إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين )
والأخشبين جبلين فى مكة .. فكان جوابه ﷺ غاية فى العفو وطيب النفس :
( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئاً )
ـــــ
ويوم أحد حين كسرت رباعيته وشُج وجهه الكريم حتى قال له أصحابه :
( لو دعوت عليهم )
فما كان منه إلا أن قال :
( إنى لم أبعث لعاناً ولكنى بعثت داعياً رحمة لهم .. اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون )
لم يكتفى ﷺ بالسكوت عنهم وإنما جمع سكوته بعفوه عنهم ودعاؤه لهم بالهداية بل وقربهم منه بأن دعاهم ” قومى ” .. أى أخلاق تلك وأى كرم نفس وأى صبر وحلم .. وما حدث مع قريش وثقيف حدث أيضاً مع دوس حين أتى الصحابى الطفيل بن عمرو الدوسى إلى النبى ﷺ يطلب منه الدعاء على قومه من أهل دوس لعصيانهم فاستقبل النبى ﷺ القبلة ورفع يديه وقال :
( اللهم اهد دوساً )
وأعظم من كل ما سبق هو موقفه يوم فتح مكة إذ الإسلام يومئذ قوى والمسلمين يومئذ أعزاء بعد سنوات طوال من التعذيب والتنكيل والتهجير وقد جاءت له الفرصة ﷺ لينتقم ممن أذوه وأساؤوا إليه حين جيء له بالأسرى من أهل مكة فقال لهم :
( ما تقولون أنى فاعل بكم ؟ )
فقالوا :
( خيراً .. أخ كريم وابن أخ كريم )
فقال :
( أقول كما قال أخي يوسف .. { لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين } .. اذهبوا فأنتم الطلقاء )
ـــــ
ومن المواقف التى تدل على حلمه ومعاملته للناس بما يتناسب مع خلفياتهم الثقافية وقدراتهم العقلية هو ما حدث عندما أدرك النبى ﷺ أحد الأعراب الأجلاف فجذبه من بُرده جذبة شديدة تركت أثراً فى جسده الشريف لا لشيء سوى طلبه للمال .. يقول أنس بن مالك رضى الله عنه :
( كنت أمشى مع رسول الله ﷺ وعليه بُرد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابى فجَبَذه بردائه جبذة شديدة – أى جذبه – حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ﷺ قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته .. ثم قال : يا محمد .. مُر لى من مال الله الذى عندك .. فالتفت إليه رسول الله ﷺ ثم ضحك ثم أمر له بعطاء )
وأنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ يروى موقفاً أخر عن النبى ﷺ يؤكد على حسن معاملته له وعفوه عن ذلاته فيقول :
( كان رسول الله ﷺ من أحسن النَّاس خلقاً فأرسلنى يوماً لحاجة فقلت : والله لا أذهب .. وفى نفسى أن أذهب لما أمرنى به نبى الله ﷺ .. قال : فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون فى السوق فإذا رسول الله ﷺ قابض بقفاى من ورائى فنظرت إليه وهو يضحك فقال : ” يا أنيس .. اذهب حيث أمرتك ” .. قلت : نعم أنا أذهب يا رسول الله .. قال أنس : والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت لم فعلت كذا وكذا؟ .. ولا لشيء تركت هلا فعلت كذا وكذا؟ )
حلم وحسن خلق شهد له بها حتى من كانوا يؤذونه سابقاً كما حدث مع أبو سفيان صخر بن حرب قبيل فتح مكة حين ذهب للقاء النبى ﷺ فى معسكر المسلمين فلما لاقاه النبى ﷺ قال له :
( ويحك يا أبا سفيان .. ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ )
فقال أبو سفيان :
( بأبى أنت وأمى .. ما أحلمك وأكرمك وأوصلك )
ـــــ
وإذا كان ما سبق مجرد قطرة فى بحر حلم النبى وعطفه وكرمه وسعة صدره ﷺ فماذا عن صحابته الكرام .. ذلك الجيل الذى تربى على تلك الأخلاق الكريمة لابد وأن له بعض المواقف التى تثبت جدارة معلمهم وهو الذى لا يحتاج إلى إثبات ..
يروى أن رجلاً شتم أبى ذر الغفارى رضى الله عنه فقال له :
( يا هذا .. لا تغرق فى شتمنا ودع للصلح موضعاً .. فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه )
أما ابن عباس رضى الله عنهما فيروى أن رجل دخل إلى مجلسه ثم سبه فنظر ابن عباس إلى عكرمة بن أبى جهل – وكان جالساً إلى جواره – ثم قال :
( يا عكرمة .. هل للرجل حاجة فنقضيها؟ )
فنكس الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه عليه ..
ويروى أن رجلاً قال لعمرو بن العاص رضى الله عنه :
( والله لأتفرغن لك )
فقال له عمرو :
( هنالك وقعت فى الشغل )
فقال الرجل :
( كأنك تهددنى .. والله لئن قلت لى كلمة لأقولن لك عشراً )
فقال عمرو :
( وأنت والله لئن قلت لى عشراً لم أقل لك واحدة )
ـــــ