بيرو .. من الإنقلابات إلى محاكمة الرؤساء ( جـ 1 )

بيرو .. من الإنقلابات إلى محاكمة الرؤساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الأول :
ــــــــــــــــــــــ

منذ بداية القرن التاسع عشر وقت أن عرفت البيرو الشكل الحديث للجمهورية و هى تعانى من الإنقلابات العسكرية .. فى أخر مئتى عام عانت الدولة اللاتينية من ويلات ستة عشر إنقلاباً عسكرياً .. لا تكاد الدولة تستقر بإنتخاب رئيسين أو ثلاثة إلا و تجبرها ظروف الإنقلاب على العودة للوراء مرة أخرى .. و مع كل انقلاب جديد يأتى حاكم جديد بلقب جديد .. القائد الأعلى للشعب .. القائد العام للدولة .. رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة .. رئيس المجلس العسكرى .. رئيس الحكومة الثورية للقوات المسلحة .. و هكذا ..

إختصاراً لتاريخ الإنقلابات فى البيرو دعونا نبدأ من الستينات ..

مرحلة #مانويل_أوجارتيتشه

ـــــ

مانويل برادو أوجارتيتشه .. الرئيس الخمسون لبيرو .. سياسى و اقتصادى و أستاذ جامعى .. والده رئيس سابق للبلاد و أخاه بطل عسكرى قومى سابق .. أما هو فكان ضابطاً سابقاً بالجيش شارك فى الإنقلاب على رئيس سابق للبلاد يدعى #جييرمو_بيلنهورست .. تدور السنين و يشرب مانويل برادو من نفس الكأس التى أذاقها لبيلنهورست ..

إنقلاب عسكرى أخر أطاح به من السلطة و أتى برجل غيره يدعى #فرناندو_بيلاوندى ..

ـــــ

مرحلة بيلاوندى لم ترق كثيراً للعسكريين .. العسكريين الذين قضوا فى السلطة سنة إنتقالية قبل انتخاب بيلاوندى لم يرغبوا حقيقة فى تركها للمدنيين .. وضعوا العوائق فى طريق الرجل حتى أصبحت فترة رئاسته جحيماً .. استمر الرجل فى سدة الحكم خمس سنوات إمتلأت بالخلافات السياسية .. عقدوا إتفاقات مع #تحالف_الرابطة_الشعبية_الثورية_الأمريكية ( APRA ) المعارض و صاحب الأغلبية فى الكونجرس .. رفضوا إصلاحات الرجل .. قللوا صلاحياته .. ساهموا فى زيادة الخلاف بين بيلاوندى و حزبه #حزب_العمل_الشعبى .. حتى إن البعض ذهب لإتهام القوات العسكرية بدعم حركات التمرد لإحداث الفوضى بالبلاد و التى اتخذت من الثورة الكوبية نموذجاً لها .. واقع البلاد كان يتهاوى يوماً بعد الآخر و لم يجد الرجل أى مساندة تذكر .. فى 3 أكتوبر 1968 استولى على السلطة رجل عسكرى يدعى #خوان_فيلاسكو_ألفارادو رافعاً شعارات تتهم النظام بتسببه فى اضطراب الأمن و تزايد الفقر و عدم المساواة ..

فيلاسكو إلى السلطة و بيلاوندى إلى المنفى فى الولايات المتحدة الأمريكية ..

ـــــ

نصب فيلاسكو نفسه رئيساً فى 8 أكتوبر 1968 و معها بدأت الوعود فى الإنهمار على رؤوس البيروفيين .. العدالة الإجتماعية .. القضاء على الفقر .. برامج شيوعية تراعى حق المجتمع .. و كما هى عادة الستينات لم تنفذ البرامج بحرفية و إنما نفذت بتسرع شديد .. نظام تأميم عرف بإسم #بيروانيزمو – #Peruanismo فى إشارة للبعد الوطنى من وراءه .. أممت كافة الصناعات فى الدولة و صودرت جميع ممتلكات رجال الأعمال تقريباً .. المزارع .. العقارات .. المحاجر .. المزارع السمكية .. مشاريع الطاقة .. الإتصالات .. تم دمج كل تلك المشاريع فى مشروعات عملاقة سبق إسم كل منها لفظ #بيرو .. بالطبع وجود تلك الكلمة كان مرادفاً للوطنية .. إن صفقت للزعيم الذى حمل البرنامج الإقتصادى الطموح على أكتافه صرت مواطناً بيروفياً خالصاً أما إذا اعترضت أو أظهرت عيوب هذا البرنامج صرت مخرباً يجب القضاء عليك فوراً ..

بعدها أغلقت وسائل الإعلام المعارضة و تم مراقبة الباقى منهم و ضيق الخناق على المعارضين السياسيين بشكل كامل .. فى عام 1974 صودرت جميع الصحف و أعيدت هيكلتها و تم نفى الناشرين المشتبه بهم إلى الخارج .. كل من ثبت عليه تهمة الإنتماء للنظام السابق أو حتى التعاطف معه كان مصيره السجن ..

هل ينتهى الأمر عند هذا ؟

بالطبع لا .. فقد حان وقت #EL_Tacnazo

ـــــ

إل تاكناثو .. إنتفاضة عسكرية بدأت من مدينة #تاكنا الجنوبية مدعومة من العديد من أعضاء القوات المسلحة البيروفية قامت بالأساس بدعم مباشر من رئيس الوزراء الجنرال #فرانسيسكو_موراليس_بيرموديز ..

بيرموديز ظهر فى الساحة الرئيسية لمدينة تاكنا طالباً من فيلاسكو التنازل عن منصبه سلمياً دون اللجوء لمواجهة عسكرية .. فيلاسكو استجاب لاعتبارات كثيرة كان منها أنه أصبح مريضاً بالفعل و لا يقوى على إدارة شئون البلاد .. بعدها تم إقصاء كل رجال فيلاسكو من الجيش و حل مكانهم رجال القائد الجديد ..

السياسة لم تتغير كثيراً فى عهد بيرموديز .. إستمرار سياسة التأميم و إن كانت بنسب أقل أثر كثيراً فى ضخ الإستثمارات الأجنبية و أثر حتى فى الإستثمارات المحلية .. لم يرغب أحد فى الإستثمار فى نشاط قد يصبح فى أى لحظة مطمعاً لبيرموديز و رجاله .. قل الإنتاج .. ارتفعت الأسعار .. إرتفع معدل الجريمة .. افتقر الشعب خاصة الفلاحين الذين استهدفهم بالأساس فيلاسكو فى إنقلابه الأول .. برنامج الإصلاح الزراعى لم يجد ما يدعمه بسبب ضعف تدفق العملات الأجنبية .. دخلت البلاد نفقاً مظلماً لا يعلم أحد نهايته ..

ـــــ

توازى هذا الإنهيار الإقتصادى مع إنهياراً أخلاقياً تمثل فى التخلى عن أى شيء مقابل المال .. الشعب جائع .. لابد من توفير إحتياجاته بأى شكل .. حتى لو تخلينا عن شرفنا .. أبرز مظاهر الفساد فى حقبة بيرموديز كانت الصفقة التى عقدها جنرالات جيش البيرو برئاسة الأدميرال #سيزار_اوجوستو_جوزيتى مع الديكتاتور الأرجنتينى #خورخى_فيديلا قبل مباراتهما معاً فى كأس العالم 1978 .. الصفقة تمت برعاية #هنرى_كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق و الذى توسط بين الأطراف بديلاً عن ظهور الولايات المتحدة فى الصورة و التى كانت تدعم انقلاب فيديلا فى الأرجنتين ..

قضت الصفقة بأن تخسر البيرو أمام الأرجنتين بفارق أكثر من أربعة أهداف حتى تستطيع الأرجنتين اللعب فى النهائى أمام هولندا مقابل أن تمنحهم الأرجنتين و من خلفها الولايات المتحدة مبلغ 50 مليون دولار و 35 ألف طن حبوب إضافة لتسليم الأرجنتين بعض المعارضين البيروفيين اللاجئين على أراضيها .. الخسة و الإنحطاط الوطنى فى أبهى صوره ..

عام 1979 وصلت البلاد إلى الحضيض فعلياً .. إنهيار إقتصادى .. إنهيار مجتمعى .. إنهيار أخلاقى .. لم يجد الجنرالات مفراً سوى تسليم السلطة إلى المدنيين بشروط تضمن لهم إمتيازاتهم العسكرية و المادية .. و بالفعل عاد فرناندو بيلاوندى من منفاه فى أمريكا ليتسلم الحقيبة الرئاسية مرة أخرى تلاه رئيس مدنى أخر هو #آلان_جارسيا .. عشر سنوات تحت الحكم المدنى لم تتقدم البلاد فيها كثيراً بسبب التركة الثقيلة التى ورثوها و بسبب العصابات المسلحة التى حاولت الإستيلاء على السلطة و قتل بسببها آلافاً من الشعب البيروفى ..

هل انتهت المعاناة ؟

ـــــ

#ألبيرتو_فوجيمورى .. الرئيس البيروفى الثانى و الستون .. ولد لأبوين يابانيين هاجروا إلى بيرو عام 1934 .. استطاع الفوز بالإنتخابات بعد ان ساعدته الظروف المحيطة بها .. الشعب ضاق ذرعاً بكثرة الوعود التى لا تتحقق .. الإدارة السابقة كانت قد إعتمدت سياسات يمينية تقشفية زادت معها حدة الفقر و زادت معها الديون التى كانت ترتفع باستمرار منذ حقبة العسكريين فى الثمانينيات .. فوجيمورى لم يكن سياسياً متمرساً لكنه كسب تأييد الشعب بسبب تصريحاته اليسارية و التى يحبها فى العادة رجل الشارع العادى .. فاز بالإنتخابات بعد أن استطاع هزيمة المرشح الأوفر حظاً وقتها #ماريو_فارجاس .. وقتها ظن الجميع أن الأمور ستسير إلى الأفضل ..

ـــــ

الديموقراطية فى البلد اللاتينى خلال تلك السنوات كانت ديموقراطية كسيحة .. الديموقراطية التى تحمى من أفسد على مدار عقود و تعفيه من الحساب هى ديموقراطية مشوهة بالتأكيد .. ديموقراطية مثل تلك لابد و أن تفرز أشخاصاً لا تؤمن بها بشكل كامل ..

تدريجياً بدأ فوجيمورى يتحلل من وعوده الإشتراكية التى أتت به إلى كرسى الرئاسة .. نفذ كل ما وعد به #فارجاس منافسه فى الإنتخابات بل و زاد عليها إجراءات تقشفية بشعة .. خفض القيود على الإستثمار الأجنبى و الواردات .. خفض الدعم .. ترك الشعب لقمة سائغة فى فم المستثمرين .. إرتفعت الأسعار و لم يكن لها ضوابط .. تضاعفت أسعار الكهرباء خمس مرات .. أسعار المياه تضاعفت ثمانية مرات .. أسعار المحروقات تضاعفت ثلاثون مرة .. برنامج تقشفى عرف بين الأوساط الإقتصادية بإسم #Fujishock أو #صدمة_فوجى .. إلا أنه حاول تقليل حدة الصدمات عن طريق مضاعفته للحد الأدنى للأجور أربع مرات و إنشاء صندوق لمكافحة الفقر ب 400 مليون دولار ..

بالطبع صندوق النقد الدولى كان راضياً جداً عنه .. و بالطبع إنتشرت تقاريره الإيجابية عن خطته الإقتصادية المذهلة .. معدل نمو 13 % سنوياً .. هذا إنجاز لا يصدقه عقل ..

13 % معدل نمو فى ثروات الأغنياء بينما يئن عامة الشعب من وطأة الغلاء ..

ـــــ

بسبب ما فات فقد وصلت شعبية الرجل إلى أدنى مستوياتها ففكر فى خطة يكسب بها تأييد شعبه و فى نفس الوقت يتخلص من منافسيه .. الشعب وقتها كان رافضاً للخسائر المتتالية أمام العصابات الشيوعية و على رأسها #عصابة_الطريق_المشرق – #Sendero_Luminoso فادعى الرجل عبر وسائل إعلامه أن المعارضة المسيطرة على الكونجرس و المتمثلة فى إئتلاف APRA و حزب الحرية يعوقون خططه الإقتصادية و يؤجلون نتائجها بالإضافة لرفضهم إطلاق يده فى حربه ضده المتمردين .. دعاهم وقتها إلى مشروع قانون يساعده على فرض الأحكام العسكرية كى يسهل عليه تطبيق أحكام الإعدام فى حق المتمردين إلا أن المعارضة رفضته خشية التوسع فى تطبيقه على المواطنين العاديين .. عندها حانت فرصته ..

اتفق فوجيمورى مع قادة الجيش على الإنقلاب على الديموقراطية فقاموا فى 5 إبريل 1992 بإغلاق الكونجرس و علقوا العمل بالدستور و قبضوا على سياسيين و قضاة معارضين لسياسة فوجيمورى .. قوبل إنقلابه فى البداية بترحيب شعبى لأن الناس رغبت فى عودة الإستقرار مرة أخرى و بالتالى تحسن الأوضاع الإقتصادية ..

فوجيمورى لم يكن يخطط لهذا للأسف ..

ـــــ

صفقة فوجيمورى مع الجيش كانت تتضمن بنوداً واضحة .. أنتم تساندونى لأجمع كل السلطات فى يدى و فى المقابل لا توجد ملاحقة لأفراد الجيش السابقين .. أعيد إنتخاب الكونجرس و بالطبع زورت الإنتخابات لكى يستطيع أنصار فوجيمورى الفوز بالأغلبية .. الكونجرس الجديد صاغ دستوراً جديداً يسمح لفوجيمورى بالترشح لفترة ولاية ثانية .. صاغ أيضاً قانوناً جديداً يقضى بالعفو عن أفراد الجيش و الشرطة المدانين بإنتهاكات ضد حقوق الإنسان منذ عام 1980 و حتى عام 1995 مع منحهم حصانة من المسائلة فى جرائمهم التالية للإنقلاب .. خلال ولاية فوجيمورى الأولى تم تأسيس فرقة عسكرية اسمها #فرقة_كولينا – #Grupo_Colina قتلت إجمالاً أكثر من 3000 معارض سياسى ..

المسئولون عن قتل هذا العدد ضمنوا عدم المساءلة القانونية على الأقل فى عهد فوجيمورى ..

ـــــ

كيف ستنتهى قصة فوجيمورى ؟

و كيف ستتمكن بيرو من محاسبة رؤساءها السابقين ؟

الحديث عن بيرو لم ينتهى .. مازال هناك الكثير ليروى ..

و لكن تلك قصة أخرى بالتأكيد ..

ـــــ

فى الصورة :
ــــــــــــــــــــ

المجلس العسكرى البيروفى بقيادة خوان فيلاسكو ألفارادو عقب الإنقلاب على التجربة الديموقراطية فى 1968

ــــــ

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى : ‏
https://play.google.com/store/apps/details…
‏ ‏
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور : ‏
https://itunes.apple.com/app/id1432249734‎
‏ ‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ