المسير المستحيل :
ــــــــــــــــــــــــــــ
من يتابع القرارات العسكرية لخليفة المسلمين أبو بكر الصديق يجد فيها جرأة غير طبيعية .. قبل نهاية عام 12 هجرياً وخلال عامين فقط من خلافته تمكنت جيوش المسلمين من القضاء على الردة واستعادت السيطرة على جزيرة العرب وزادت على ذلك بأن سيطرت على النصف الغربى من بلاد العراق والخاضع للإمبراطورية الساسانية فى إنجاز عسكرى مذهل ..
لم يكتفى الخليفة أبو بكر بهذا وإنما زاد عليه بأن أرسل أربعة جيوش صغيرة إجمالى تعدادها لا يتخطى العشرون ألف مقاتل لقتال الإمبراطورية البيزنطية فى بلاد الشام .. المسلمين بهذا فتحوا جبهتين لقتال أكبر إمبراطوريتين على وجه الأرض فى نفس الوقت رغم قلة أعدادهم وضعف تجهيزاتهم ورغم أن دولتهم بالكاد تخطو خطواتها الأولى ..
جيش الشام الأول كان بقيادة خالد بن سعيد بن العاص والثانى بقيادة شرحبيل بن حسنة والثالث بقيادة أبو عبيدة بن الجراح والرابع بقيادة عمرو بن العاص ورغم ضعف أعداد الجيوش الأربعة إلا أن إنتصارات المسلمين فى العراق ضد الفرس جعلت هرقل إمبراطور الروم يرغب فى المصالحة مع المسلمين على نصف خراج بلاد الشام لكنه فشل فى إقناع وزراءه الذين استخفوا بأعداد المسلمين الضئيلة خاصة أن الروم كان لهم جيشان رئيسيان فى الشام .. الأول قدر بسبعين ألف مقاتل وتمركز فى فلسطين والثانى قدر بمائتى ألف مقاتل وتمركز فى أنطاكية قرب الحدود التركية حالياً ..
أول ثلاث معارك فى الشام انتصر فيها المسلمين ولكن جميعها كانت أمام جيوش بيزنطية فرعية ورغم ذلك فالهزائم أجبرت ( باهان ) القائد العسكرى للروم على الإنسحاب وهو ما شجع خالد بن سعيد قائد الجيش الأول على التوغل أكثر دون الرجوع إلى الخليفة أو حتى التنسيق مع باقى الجيوش مما أعطى الفرصة لباهان للإلتفاف حوله وإلحاق أول هزيمة بجيش من جيوش المسلمين ..
ـــــ
تلك الهزيمة أوحت للبيزنطيين بخطتهم التى سيتبعونها .. سننسحب أمام المسلمين دون قتال وكلما توغلوا فى أراضينا كلما تباعدت صفوفهم وقلت إمكانية دعم بعضهم بعضاً فيسهل علينا القضاء عليهم منفردين ..
الهزيمة مع إنسحاب الروم جعلت قادة المسلمين يشكون فى الأمر ويخافون من مواجهة محتملة غير متكافئة فقرروا بعد أن راسلوا بعضهم العودة إلى الخليفة أبو بكر ليقضى فى الأمر فلما وصله كتابهم أمرهم بالتراجع والتجمع فى منطقة بُصْرَى لتكوين جيش واحد ..
فى تلك الأثناء كانت الروم تحشد فى فلسطين وبدأت الثقة تعود إليهم بعد إنتصارهم الأخير وبدأ قادة الروم وكبراءهم يرددون مقولة إنتشرت بشدة بين عامة الناس إلى أن وصلت إلى مسامع المسلمين حيث قالوا :
( والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا )
فقام قادة المسلمين بإبلاغها إلى الخليفة ضمن رسالتهم إليهم فلما قرأها أبا بكر قال جملته الشهيرة :
( والله لأَشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد )
وعلى الفور أرسل رسالة إلى خالد الذى كان فى الحيرة غرب العراق قال له فيها :
( بسم الله الرحمن الرحيم .. من عبد الله عتيق بن أبى قحافة إلى خالد بن الوليد .. سلام عليك .. أما بعد .. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو وأصلى على نبيه محمد ﷺ .. أما بعد .. فإذا جاءك كتابى هذا فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه وامض متخففاً فى أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة وصحبوك فى الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتى الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين .. فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام عليك )
المسلمين فى الشام فى خطر والوقت يداهمهم .. إذا تمكن الروم من حشد جيشهم سيتحركون تجاههم وعندها فالمواجهة ستكون حتمية والنتيجة ربما تكون كارثية إذا ما نظرنا للفارق العددى بين الطرفين ..
على خالد التحرك ..
وبسرعة ..
ـــــ
فى ذلك الوقت كان أمام خالد طريقان يمكنه السير من خلالهما .. أولهما وأيسرهمها هو الطريق الجنوبى الذى يمر عبر دومة الجندل وهو طريق آمن ويعرفه العرب جيداً وفيه ماء وفير ولا يوجد به أى تهديدات لكنه بالمقابل كان أبعد الطرق المتاحة .. ثانى الطرق كان الطريق الشمالى على طول نهر الفرات إلى شمال شرق الشام .. ذلك الطريق كان ملائماً جداً أيضاً ففيه ماء وفير وكان أيضاً معروفاً للعرب لكن بالمقابل كان الطريق مليء بالحاميات الرومانية التى ستؤخر وصولهم إلى بُصرَى .. هذان الطريقان وإن كانا الأنسب إلا أنهم اشتركا فى شيء يرفضه خالد ألا وهو الوصول متأخراً على أبو عبيدة بن الجراح .. جمع خالد قادته وقال لهم :
( كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم .. فإنى إن استقبلتها حبستنى عن غياث المسلمين )
فقالوا :
( لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيش .. فإياك أن تَغْرُر بالمسلمين )
كانوا يحذرونه من خطورة الطريق وأنه طريق غير مهيأ للجيوش وقد يكون فيه هلاكهم .. تحذيرات فى الظروف الطبيعية كان من الممكن أن تُثنى أى قائد للجيش عن إتخاذ هذا القرار .. و لكن من قال إن خالد مثل أى قائد .. خالد كان جريئاً .. كان فذاً رضى الله عنه ..
ـــــ
رافع بن عميرة الطائى .. واحد من صحابة رسول الله ﷺ كان هو الوحيد الذى وافقه ولكنه كان متهيباً لذلك فلما رأى خالد التردد فى عيونهم قال لهم :
( أيها الناس .. لا يختلفن هديكم ولا يضعفن يقينكم .. واعلموا ان المعونة تأتى على قدر النية .. والأجر على قدر الحُسبَة .. وأن المسلم لا ينبغى له ان يكترث لشيء يقع فيه مع معونة الله له )
فنووا واحتسبوا ثم قالوا له :
( أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك )
فاجتمع خالد برافع ابن عميرة وقال له :
( إنطلق بالناس )
فقال رافع محذراً إياه التحذير الأخير :
( إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال .. والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلا مغرراً .. إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها )
فقال له خالد :
( ويحك .. إنه والله إن لى بد من ذلك .. إنه قد أتتنى من الأمير عُزمة بذلك فمر بأمرك )
فقال عامر :
( استكثروا من الماء .. من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل .. فإنها المهالك إلا ما دفع الله )
ثم قال :
( ابغنى عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسان )
فلما أتاه بهن خالد ظمأهن رافع عن قصد حتى إذا أجهدهن عطشاً أوردهن فشربن حتى إمتلئت بطونهن فساروا مستقبلين الطريق .. ولكى ندرك حجم المخاطرة يجب علينا تخيل الموقف حينها .. جيش مكون من تسعة آلاف مقاتل .. تحركه كان فى فصل الصيف .. تحديداً شهر يونيو .. خط سيره يبدأ من الحيرة إلى عين التمر ثم المصيخ ثم إلى قراقر ثم إلى سوى ثم إلى بصرى .. أكبر مشكلة فى خط السير كانت فى المسافة بين قراقر وسوى .. مئة وعشرين ميل بلا نقطة مياه .. طريق لم يمر به أحد سوى شخص واحد هو رافع بن عميرة وكان قد أخبرهم بوجود نبع ماء قبل سوى بمسيرة يوم يمكنهم الشراب منه .. لو أخطأ رافع رضى الله عنه خطئاً واحداً لهلكت تسعة آلاف نفس ..
هل استوعبتم حجم الخطر ؟
ـــــ
حمل الناس مياهاً على إبلهم قدر ما استطاعوا تحسباً لمشقة الطريق .. لم تمثل الثلاث ليال الأولى مشكلة كبيرة على الرغم من حرارة الجو .. فى كل يوم كان خالد يأمر بذبح عشرة من الإبل فيأكل الجيش لحومها ثم يستخرجوا المياه من أسنمتها فتشرب منه دواب الجيش .. بدأت المشاكل فى الظهور بداية من اليوم الرابع بسبب نقص مخزون المياه .. هم يسيرون الآن تحت لهيب الشمس بلا ماء تقريباً على أمل أن يجدوا نبع الماء الذى وعدهم به رافع .. إذا انحرف رافع ولو لميل واحد عن مساره لهلك الجميع ..
فى اليوم الخامس انتهى الماء تماماً .. إن لم يجدوا الماء الآن فلينتظروا هلاكهم .. فى هذا الوقت المشكلة لم تتمثل فقط فى عثور رافع على الماء .. المشكلة تمثلت فى رافع نفسه .. بسبب جو الصحراء وآشعة الشمس أصيبت عينا رافع بالتهاب فصار أرمد لا يستبين الطريق .. إن لم يستطيع رافع الرؤية فمن سيقودنا إلى النبع إذاً .. لا تنسوا أننا فى صحراء جرداء تماماً فى جو شديد الحرارة بدون ماء منذ أربع وعشرين ساعة وأكثر .. نحن نتحدث عن أشخاص على شفا الموت حرفياً .. لم يكن هناك أمل إلا الإستدلال بذاكرة رافع وإلا فالموت مؤكد ..
لما رأى خالد ما يحدث قال لرافع :
( ويحك يا رافع ما عندك ؟ )
قال لهم :
( أدركت الرى إن شاء الله )
ثم قال للناس :
( انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل ؟ )
والعوسج نبات من فصيلة الباذنجانيات فنظروا وقالوا :
( ما نراها )
فقال لهم :
( إنا لله وإنا إليه راجعون .. هلكتم والله إذاً وهلكت .. لا أبا لكم فانظروا ثانية )
بعد بحث مضنى وجدوا الشجيرة لكنها كانت مقطوعة فقال لهم :
( أحفروا فى أصلها )
فحفروا فإذا بنبع الماء فكبروا وشربوا حتى ارتووا .. فلما أقبل خالد على رافع ليشكره قال له رافع :
( والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة .. وردته مع أبى وأنا غلام )
جيش كامل إستدل بذاكرة رجل أرمد لم يمر فى ذلك الطريق إلا مرة واحدة منذ ثلاثين عاماً على الأقل .. سبحان من نجَّى ذلك الجيش وسبحان من سخر خالد بن الوليد لرفعة دينه ..
ـــــ
مصادر :
ـــــــــــــ
( * ) البداية و النهاية – الجزء السابع – ص 5
( * ) تاريخ الخميس فى أحوال أنفس نفيس – الجزء الثالث – ص 223
( * ) الكامل فى التاريخ – 2 / 409 – ص 301 / 302