الظاهر بيبرس .. قصة قائد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثامن :
ــــــــــــــــــــــ
سقوط أنطاكية كان كارثة للصليبيين .. الإمارات الصليبية الأربعة اللى بدأوا بيهم فى بلاد الإسلام راحوا واحدة ورا التانية .. الرها فى عهد عماد الدين زنكى وبيت المقدس فى عهد صلاح الدين الأيوبى وأنطاكية دلوقت فى عهد الظاهر بيبرس ومبقاش فاضل غير طرابلس .. لو سقطت هيا كمان مش هيبقى ليهم وجود فى الشام نهائياً .. مش هيبقى باقى غير شوية حصون ومدن ثانوية أصغر جيش إسلامى يقدر يستولى عليهم ..
الصدمة من شدتها أجبرت فرسان الداوية والإسبتارية على ترك حصونهم من غير قتال زى ما حصل فى ( حصن بُغْراس ) اللى سابوه من غير ما يتلفوا أسلحته ولا حتى ياخدوا الأموال اللى فيه .. أما صاحب عكا فبادر بالصلح وبيبرس وافق بشرط إن خراج المدينة يتقسم بينهم .. نص ليه ونص للمسلمين .. أما صيدا فتم تقسيمها .. المناطق السهلية للصليبيين والمناطق الجبلية للمسلمين ..
ـــــ
( صور ) كانت من المدن اللى بيبرس معملش معاها صلح وعشان كده إستغل ده وقرر الهجوم عليها وهو فى طريق عودته للقاهرة وخد منها اللى فيه النصيب .. بيبرس دخل القاهرة فى 18 ذو القعدة سنة 666 هجرياً لكنه كالعادة مقعدش كتير فخرج بعد 6 شهور وعمل جولة تفتيشية واسعة جداً مر فيها على غزة وأرسوف ودمشق والصبيبة والشقيف وصفد وبعدها رجع تانى على القاهرة وهناك قرر إنه يقوم بفريضة الحج وبالفعل خلص مناسك الحج وطلع على حلب ومنها على دمشق وبعدها الخليل والقدس وأخيراً رجع القاهرة تانى .. كل ده حصل فى 8 شهور بالظبط ..
فى أواخر ربيع الأول سنة 668 هجرياً خرج بيبرس مرة تانية على الشام والوضع ساعتها على الأرض كان حصل فيه شوية تغيرات لإن فى وفد من مملكة أراجون فى شمال إسبانيا وصل للشام وعمل مقابلات مع المغول بغرض التحالف معاهم ضد المسلمين وده طبعاً كان ضد خطة بيبرس تماماً لأنه كان بيستهدف تقسيم قوة أعدائه وعدم تحالفهم ضده .. ده خلاه يسرع فى تنفيذ خطته للهجوم على طرابلس ولكنه خاف من خطر الحشاشين لإنهم ممكن يهاجموا دولته أثناء إنشغاله فى طرابلس وعشان كده عرض عليهم الهدنة وبالفعل وافقوا عليها ..
ـــــ
فى أواخر شعبان سنة 668 هجرياً وأثناء ما كان بيبرس بيحط اللمسات الأخيرة للهجوم على طرابلس وصلته أخبار بتقول إن ( لويس التاسع ) ملك فرنسا خرج بحملة صليبية جديدة فظن إنه هيعيد نفس خطته فى أخر حملة لما نزل على دمياط فاتحرك بسرعة على القاهرة وبدأ فى دعم الأسطول وحماية المدن لحد ما وصلته أخبار جديدة قالت إن لويس التاسع قرر النزول فى تونس مش فى مصر ..
هنا بقى تظهر قيمة بيبرس كأبرز حاكم مسلم فى زمانه .. بيبرس كان مؤمن جداً إن المسلم لأخيه المسلم ومفيش حاجة إسمها مليش دعوة طالما الهجوم مش فى بلدى .. على طول أرسل لأمير تونس ( أبو عبد الله المستنصر ) ووعده بالدعم وطالبه بالصبر لحين تجهيز الجيش وأمر عربان وقبائل ليبيا اللى كانوا تابعين لدولته بالإسراع لتونس ومساعدتهم وأمر كمان بحفر الأبار بطول الطريق عشان القوات اللى هتخرج من مصر ولكن قبل ما ده يحصل بيموت لويس التاسع بسبب وباء إنتشر فى صفوف جيشه وبيتوصل أمير تونس مع قادة الحملة لإتفاق وبيوقعوا معاهدة صلح فبيرجع بيبرس لإهتمامه الأول بطرابلس ..
ـــــ
طرابلس زى ما قلنا كانت أخر الإمارات الصليبية فى الشام والدفاع عنها طبيعى إنه يكون مستميت عشان كده بيبرس فكر إن قبل الهجوم عليها لازم يستولى على الحصون والقلاع القوية اللى فى محيطها لإنها ممكن تدعمها فى أى لحظة وفجأة يلاقى نفسه محاصر بينهم .. وبالمناسبة دى نفس خطة صلاح الدين الأيوبى لإسترجاع بيت المقدس ..
فى البداية إستولى على ( صافيتا ) ودى مدينة حالياً فى أقصى غرب سوريا وكان فيها حصن تابع لفرسان الداوية .. بعدها إستولى على كام حصن وبرج قريبين منها .. بعدها إستولى ( حصن الأكراد ) وده واحد من أهم – إن لم يكن أهم – الحصون الموجودة فى غرب سوريا وشمال لبنان وكان تابع وقتها لفرسان الإسبتارية .. كل ده تم فى أقل من شهرين .. الأرقام دى يا جماعة بمقاييس الزمن ده إعجازية .. عاوز أقولكم إن حصن الأكراد ده لوحده كان بيحتاج من شهرين لثلاثة عشان بس نوصل لمرحلة التفاوض .. بيبرس من علو همته وعظيم إنجازه خلص كل ده فى أقل من شهرين ..
سقوط حصن الأكراد كان مؤثر جداً وأجبر كتير من الحصون الأصغر حجماً والأقل تجهيزاً إنها تبادر بالصلح زى الداوية فى حصن أنطرسوس والإسبتارية فى حصن المرقب وبيبرس كان بيوافق على الطلبات دى بسهولة بهدف كسب الوقت ولكن طبعاً بشروط أبرزها حصول المسلمين على نصف خراج المناطق التابعة ليهم .. الراجل كان وصل لمرحلة إنه مبقاش يكلف خاطره ويهجم .. هو بس يظهر فى المنطقة وهما اللى هيجوله يطلبوا الأمان .. أخر حصن كان قصاد بيبرس هو ( حصن عكار ) وده موجود فى شمال لبنان وكان أقرب الحصون لطرابلس .. بعد حصار قوى وهجوم متتالى على الحصن إضطرت الحامية اللى جواه إنها تستسلم وده كان فى منتصف رمضان سنة 669 هجرياً ..
ـــــ
بعد سقوط حصن عكار مكانش فاضل قدام بيبرس غير طرابلس وزى ما هى عادته كان بيحب يبعت لخصومه رسايل تبرز تفوقه وتأثر عليهم نفسياً وأعتقد المساحة النهاردة تسمح إنى أكتبلكم جزء من رسالته لبوهيمند السادس اللى كان محتمى فى طرابلس اللى بدأها بالآتى :
( قد علم القومص بيمند – جعله الله ممن ينظر لنفسه ويفكر فى عاقبة يومه من أمسه – نزولنا بعد حصن الأكراد على حصن عكار .. وكيف نقلنا المنجنيقات إليها فى جبال تستصعبها الطيور لإختيار الأوكار .. وكيف صبرنا فى جرها على مناكدة الأوحال ومكابدة الأمطار )
وبعدين كمل فى فقرة تانية قال فيها :
( وكتابنا هذا يبشرك أن علمنا الأصفر نصب مكان علمك الأحمر وأن صوت الناقوس صار عوضه الله أكبر .. ومن بقى من رجالك أطلقوا ولكن جرحى القلوب والجوارح .. وسلموا ولكن من ندب السيوف إلى بكاء النوائح .. وأطلقناهم ليحدثوا القومص بما جرى ويحذروا أهل طرابلس من أنهم يغترون بحديثك المفترى .. وليروهم الجراح التى أريناهم بها نفادا .. ولينذروهم لقاء يومهم هذا .. ويفهموكم أنه ما بقى من حياتكم إلا القليل وأنهم ما تركونا إلا على رحيل .. فتعرف كنائسك وأسوارك أن المنجنيقات تسلم عليها إلى حين الإجتماع عن قريب .. وتعلم أجساد فرسانك أن السيوف تقول إنها عن الضيافة لا تغيب .. لآن أهل عكار ما سدوا لها جوعاً ولا قضت من رِيّها بدمائهم الوطر .. وما أُطلقوا إلا لما عافت شرب دمائهم – أى السيوف – وكيف لا وثلاثة أرباع عكار عكر .. ليعلم القومص هذه الجملة المسرودة ويعمل بها وإلا فليجهز مراكبه ومراكب أصحابه .. وإلا فقد جهزنا قيودهم وقيوده )
ـــــ
بيبرس مكتفاش بالرسالة المكتوبة رغم قوتها وحجم الوعيد اللى فيها لبوهيمند ولكن ألحقها برسالة شفهية مع واحد من فرسان الإسبتارية يوصلهاله قاله فيها :
( أين تروح منى ؟ .. والله لابد أن آخذ قلبك وأشويه وأنت تنظر .. وما ينفعك أبغا بن هلاوون )
وكان يقصد بالرسالة دى عقابه بعد تحالفه مع ( أباغا بن هولاكو ) ضد المسلمين .. بوهيمند لما قرأ الرسالة بدأ يخاف على نفسه فمبقاش يخرج للصيد خارج أسوار المدينة وإحتجب جواها فوصلت الأخبار لبيبرس اللى استمر فى إذلال بوهيمند فبعتله غزال مذبوح وضبع حى مع رسالة كتبله فيها :
( لما اتصل بنا إمتناعك من التصرف خوفاً على نفسك وهجرانك للصيد الذى هو غاية مرامك بعثنا إليك نصيباً من الإجحاف بك والميل عليك )
فى الوقت ده بيبرس كان خلاص جهز نفسه تماماً للهجوم على طرابلس وقبل تحديدمعاد التحرك حصلت حاجة وقفت كل الترتيبات وهى حضور وفد إنجليزى ضخم على رأسه أمير إنجليزى إسمه إدوارد ( هيبقى ملك إنجلترا بعد كده ) بغرض الحج إلى بيت المقدس .. الوفد ده خلى بيبرس يعيد حساباته وظن إن ده مقدمة لحملة صليبية جديدة فخاف تجميع قواته فى طرابلس فتجيله الضربة فى مكان مختلف فأعاد ترتيب أوراقه ووافق على طلب بوهيمند لتوقيع الهدنة مع المسلمين ..
ـــــ
توقيع الهدنة رغم إنه مكانش رغبة الظاهر بيبرس ولكن رغم كده القرار ده فيه بعض الوجاهة .. تخيل لو كان فى حملة صليبية فى الشام مع وجود المغول فى العراق بخلاف الحشاشين الشيعة اللى كانوا بيدوروا على ربع فرصة للإنتقام من المماليك و كل دول هجموا فى وقت واحد ساعتها كان هيبقى وضع المسلمين إيه ؟ .. كان لازم طبعاً يأمن نفسه ويركز على عدو واحد منهم ..
كمان لازم نفهم إن بيبرس وقع الهدنة مع الصليبيين ولكن بعد ما خد منهم كل بلادهم تقريباً ومتبقاش ليهم إلا طرابلس وكام حصن وقلعة متفرقين .. إمارة ضعيفة بدون موارد كبيرة متقدرش تقف قدام المسلمين بعد كده وده اللى حصل بالمناسبة بعد 18 سنة فى عهد السلطان سيف الدين قلاوون اللى نجح فى السيطرة على طرابلس وقتها ..
ـــــ
مش باقى غير إنى أحكيلكم على موقف ظريف حصل وقت التفاوض على الصلح مع بوهيمند وهو إن بيبرس كون وفد على راسه القاضى ( محيى الدين بن عبد الظاهر ) وكان هو بنفسه موجود فى الوفد ولكنه كان متنكر فى هيئة سلاحدار ( الأمير المسئول عن مخازن السلاح ) وكان ضمن الوفد أتابك العسكر وبعض الأمراء .. المهم بعد ما انتهى الإتفاق على البنود وجه وقت كتابتها فاتكتب الآتى :
( واستقرت الهدنة بين مولانا السلطان وبين القومص )
والقومص كلمة أصلها من اللغة النبطية ومعناها رفيق الأمير أما الأمير فكتبها العرب بلفظ الإبرنس وده خلى بوهيمند يغضب جداً وقال للوفد :
( من هو القومص ؟ )
فقال القاضى ابن عبد الظاهر :
( أنت )
فقال :
( لا .. أنا إبرنس )
فرد عليه :
( الإبرنس السلطان الملك الظاهر لأن الإبرنسية هى لصاحب القدس وأنطاكية واسكندرونة وهو مولانا السلطان )
فابتدى الحضور يهمهم ويبص لبوهيمند بصة معناها إن ده وقت الدفاع عن كرامتك فشاف بيبرس إن ده ممكن يبوظ المفاوضات فنغز أتابك العسكر برجله ففهم الأتابك ووجه كلامه للقاضى محيى الدين وقال :
( يامحيى الدين صدقت .. وإنما مولانا السلطان قد أنعم على هذا – يقصد بوهيمند – بلفظة الإبرنس كما أنعم عليه بتوطينه فى مملكته )
وتم كتابته فعلاً بإسم الإبرنس .. وجدير بالذكر إن الجزء الأخير ده تم توثيقه فى عهد الصلح وده معناه عدم إعتراف المسلمين بأحقية بوهيمند فى الأرض وإنما وجوده فى طرابلس مجرد عطية ومنحه من السلطان بيبرس ليه وهو ما يعطى المسلمين الحق فى إستعادة الأرض فى أى وقت وده اللى حصل فعلاً بعد كده زى ما قلنا ..
الإتفاقية دى كانت آخر العهد بين بيبرس والصليبيين وأى إحتكاك حصل بعد كده بين الطرفين مكانش يرقى لدرجة المعارك ولكن مجرد مناوشات مغيرتش كتير من الواقع على الأرض ..
ـــــ