الظاهر بيبرس .. قصة قائد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء السابع :
ـــــــــــــــــــــــ
فى 18 رمضان سنة 664 هجرياً وبعد حوالى أسبوع من الحصار إضطرت حامية ( صفد ) إنها تستسلم وطلب قادتها الأمان فوافق بيبرس بشروط .. أولها إنهم يخرجوا بلا مال أو سلاح .. وثانيها إنهم ميتلفوش أى شيء من ذخائر القلعة لكن اللى حصل إنهم بعد المهلة المحددة ليهم خرجوا من أبواب القلعة وهما مخبيين معاهم أموال وأسلحة .. ومش بس كده .. ده كانوا مخرجين وسطهم أسرى مسلمين على أساس إنهم مسيحيين وعليه أمر بيبرس بإعدام الحامية كلها وبالفعل تم إعدامهم على أحد التلال القريبة من صفد ..
الموقف ده كان فرصة مثالية للمؤرخين الأوروبيين عشان يدللوا على دموية بيبرس وغدره بالأسرى فى حين إن المؤرخين المسلمين قالوا إن الصليبيين فى صفد هما اللى خالفوا شروط عهد الأمان وعليه فهما إستحقوا اللى حصلهم .. طيب هل كان فى وسائل تانية أقل دموية من اللى حصل ؟ .. هل بيبرس كان مبالغ شوية فى قراره ؟ .. الله أعلم .. الأحداث قدام حضراتكم وكل واحد يقدر يقيمها بنفسه ..
ـــــ
فى الأول خرب بيبرس المدينة ولكن بعد 3 شهور قرر إنه يرجعلها تانى ويعمرها وإستدعى عدد من أهل دمشق للسكن فيها وأعاد بناء القلعة تانى عشان تبقى مركز ليه فى حربه ضد الصليبيين .. فى الفترة دى إستغل الوقت فى إنه يستولى على ( هونين وتبنين والرملة وقارا ) وبعدها رجع على القاهرة فى ربيع الأول سنة 665 هجرياً ولكن زى ما خلاص كلنا فهمنا بيبرس مكانش بيلحق يقعد فى القاهرة إلا ويخرج لحملة جديدة .. بعد 4 شهور بالظبط بيخرج مرة تانية على الشام والمرة دى وجهته كانت عكا ..
عكا مدينة كبيرة وأى هجوم منظم عليها كان هيلفت نظر الجنود المتمركزين فيها وهيخليهم يدخلوا يحتموا بأسوارها وبيبرس كان هدفه من الحملة دى تكبيدهم أكبر خسائر بشرية ممكنة عشان كده فكر فى خدعة شاف إنها هتكون المفتاح لتحقيق غرضه .. قبل عكا بمسافة مش بعيدة لبس عدد من جنود المسلمين ملابس فرسان الداوية والإسبتارية ودول أكبر فرقتين عسكريتين كان بيعتمد عليهم الصليبيين .. الجنود المسلمين إتنكروا فى اللبس دى وبدأوا يتجمعوا قدام باب المدينة وأول ماقربوا من بعض هجموا على كل العساكر اللى برة المدينة فلما الصليبيين إتفاجئوا بالهجوم حاولوا يجروا على باب المدينة عشان يدخلوا لكن الجنود اللى جوه مقدروش يفتحوا الأبواب وإلا المسلمين هيدخلوا معاهم .. قفل الأبواب تسبب فى قتل كل الجنود اللى كانوا موجودين بره أسوار المدينة لدرجة إنه إتقال فى وصف عدد القتلى :
( وصارت الرءوس تحمل إليه من كل جهة )
والمقصود بيبرس طبعاً .. بعد ما انتهت المعركة دى رجع بيبرس على صفد وهناك وصله رسل الصليبيين لطلب الهدنة فلما شافوا رؤوس القتلى على الرماح وشافوا الأسرى وهى بتتعدم خافوا فبيبرس قالهم :
( هذه الغارة فى مقابلة غارتكم على بلاد الشقيف )
ورفض طلبهم للهدنة .. والشقيف حصن منيع تبادل على إمتلاكه المسلمين والصليبيين أكتر من مرة وهنجيب سيرته كمان شوية .. رفض بيبرس للهدنة المرة دى كان للفرقة الصليبية دى بس مش لباقى الفرق .. هجوم عكا وإنتصاره فيه مع إنتصاراته السابقة فى أكتر من مكان خلى كل فرق الصليبيين يبقى عندها يقين بتفوقه عليهم وعشان كده لجأوا لطلب الصلح والهدنة أكتر من مرة فلو كان رفض الصلح معاهم كلهم فمكانش هيبقى قدامهم غير الإتحاد ضده وهو مش عاوز كده .. هو عمل حاجة ذكية جداً .. وقع هدنة مع عدد منهم ورفضها مع الباقيين .. يعنى وقع هدنة مع بيروت وصور وفرسان الإسبتارية فى حصون الأكراد والمرقب ورفض الصلح مع عكا وطرابلس وأنطاكية وفرسان الداوية .. بكده هو فرق كلمتهم وشتت أى تجمع محتمل ليهم ضده ..
ـــــ
بعد أقل من سنة وتحديداً فى جمادى الآخر سنة 666 هجرياً خرج بيبرس من القاهرة على الشام وفى المرة دى حاصر يافا لحد ما قدر إنه يقتحمها وهد قلعتها وغنم منها كل ممتلكاتها وبالمناسبة الغنائم دى هى اللى بنى بيها المسجد بتاعه الموجود بميدان الظاهر حالياً .. بعدها طلع على حصن الشقيف اللى لسه متكلمين عنه وده حصن موجود فى جنوب لبنان حالياً وهو حصن قوى ومهم كان تحت سيطرة فرسان الداوية اللى زى ما قلنا بيبرس مرضيش يعقد معاهم صلح .. الحصن ده فى الظروف الطبيعية المفترض إن حصاره ياخد وقت طويل وجهد كبير وكتير من محاولات حصاره وإخضاعه كانت بتفشل بسبب حصانته إنما عشان بيبرس راجل نيته فى الجهاد كانت سليمة فربنا سبحانه وتعالى كان بيهيأله أسباب الإنتصار ..
قبل وصوله لحصن الشقيف وقع تحت إيد المسلمين رسول صليبى من عكا كان رايح لحصن الشقيف وكان معاه رسالة مضمونها إنهم بيشجعوهم على الصمود ضد المسلمين وعدم تسليم الحصن .. بيبرس قرأ الرسالة من هنا وعلى طول خطرت فى باله فكرة هايلة وهى فبركة رسالتين شبه رسالة حامية عكا بالظبط بس بمضمون مضلل .. عمل إيه بقى ؟ .. الرسالة الأولى وجهها لمقدم الداوية حذره فيها من أكابر أمراؤه من إنهم عاوزين يعزلوه .. الرسالة الثانية وجهها للأمراء دول حذرهم فيها من المقدم بتاعهم وشجعهم على الإنقلاب عليه والرسالتين ظاهرياً مبعوتين من حلفاؤهم فى عكا .. يعنى موثوق فى محتواهم ..
واحد هيقولى طب وهو مكانش قادر يألف الرسالتين دول من نفسه بدون ما الصدفة تلعب دور فى وقوع الرسالة الأصلية تحت إيده .. أقوله إن المراسلات وقت الحروب زمان زيها زى رسائل اليومين دول .. لازم تحتوى على ما يشبه الشفرة أو العلامة المميزة وأحياناً الشفرة دى بتختلف من مكان للتانى .. يعنى بين عكا والشقيف شفرة .. بين حيفا وقيسارية شفرة .. بين طرابلس وأنطاكية شفرة .. والشفرات أو العلامات نفسها بتختلف كل فترة مبتفضلش ثابتة فلو كان بعت أى رسالة والسلام كانوا هيعرفوا إنها رسالة مدسوسة طبعاً .. إنما كده مكانش فى أى شك .. المهم إنهم بلعوا الطعم طبعاً ووقع بينهم الخلاف وخلال فترة قصيرة جداً بعتوا للظاهر بيبرس اللى كان حاصر الحصن خلاص وبلغوه برغبتهم فى الإستسلام وتسليم الحصن .. كل اللى فات ده تم فى أقل من شهرين بالظبط وتحديداً خلص فى نهاية رجب سنة 666 هجرياً ..
ـــــ
بيبرس يا جماعة كان ذكى جداً .. قائد عسكرى بجد .. من الأفذاذ الذى قلما يجود الزمان بمثلهم بكل أمانة .. عاوز أقولكم إن اللى حصل فى يافا والشقيف كان مجرد تسخين بسيط للى جاى .. المقبلات اللى بتتاكل قبل وجبة الغداء الرئيسية .. بيبرس بعد ما استولى على حصن الشقيف طلع على بانياس وطرابلس وهناك مهاجمش المدينتين نفسهم ولكن هاجم الضواحى واستولى على اللى قدر عليه وبعدها دخل لأراضى دولته فى حمص وحماه .. ليه ؟ .. عشان أولاً يبعد عن عيون الصليبيين وثانياً عشان يوصلهم إحساس الأمان وإن هجماته إنتهت فميبقوش فى وضع إستعداد .. ما هو لو فضل مكمل فى أراضيهم هيفضلوا متحفزين ضده وبالتالى مش هيحقق اللى هو أساساً خرج عشانه .. إمارة أنطاكية ..
ـــــ
أنطاكية يا جماعة ثانى إمارة صليبية إتأسست فى الشام يونيو 1098 ميلادياً .. مفصلهاش عن إمارة الرها اللى هى أول إمارة إتأسست هناك غير 4 شهور بس .. مدينة كبيرة جداً سورها طوله 12 ميل وفيها 130 برج وفيها 24 ألف شرفة .. المدينة العظيمة دى إستمرت فى بلاد المسلمين لمدة 170 سنة .. 170 سنة لحد ما بيبرس وصلها بجيشه يوم 14 مايو سنة 1268 ميلادياً – 29 شعبان سنة 666 هجرياً .. تتخيلوا بيبرس هيحتاج وقت قد إيه عشان يستولى على كل العظمة دى ؟ .. 5 أيام بالظبط ..
بيبرس قسم الجيش بتاعه ل 3 أجزاء .. الجزء الأول بعته لميناء أنطاكية عشان يمنع أى دعم يوصل عن طريق البحر .. الجزء الثانى بعته لمدخل الشام من ناحية جبال طوروس عشان يمنع أى دعم من أرمينيا اللى كان بيحكمها نسايب ( بوهيمند السادس ) .. الجزء الثالث كان تحت قيادته هو شخصياً وده اللى توجه بيه لحصار المدينة .. ( بوهيمند ) مكانش فى المدينة وكان بالصدفة فى طرابلس وبالتالى قيادة جيش المدينة بقت فى يد قائد الحامية ( سيمون مانسيل ) اللى خرج بجنوده أكتر من مرة لصد بيبرس لكنه مقدرش وكان كل مرة بيرجع للمدينة عشان يحتمى بيها لحد ما فى أحد معارك اليوم الرابع تم أسره وبكده فقدت أنطاكية القيادة الأولى والثانية فيها وده أثر جداً على معنويات الجنود ..
فى اليوم الخامس ( 4 رمضان 666 هجرياً ) هجم بيبرس بكامل قواته بعد ما إتأكد من قدرات حامية المدينة .. هجوم على كافة نقاط الضعف فيها لحد ما تمكن المسلمين من فتح ثغرة فى السور ودخلوا منها .. جوه المدينة كانت معركة حياة أو موت بالنسبة لجنود أنطاكية عشان كده إستبسلوا فى الدفاع عن نفسهم ولكن لفارق المعنويات والتجهيز نجح بيبرس وجنوده فى هزيمتهم فهربوا وإحتموا بقلعة المدينة وبعتوا لبيبرس فى طلب الأمان .. بيبرس وافق على طلبهم ولكن الأمان كان للى إستخبوا فى القلعة بس أما اللى تم أسرهم داخل المدينة فاتباعوا كعبيد ..
أما عن الغنايم فكانت من كثرتها لم جمعوها فى ساحة المدينة بقت أشبه بالتل لدرجة إنها كانت بتتوزع بالطاسات .. يعنى مش بالعدد .. بالكبشة دى .. ورغم كده بيبرس قعد يومين كاملين لقسمتهم على الجنود .. إنتوا متخيلين .. يومين كاملين والغنايم بتتوزع بالكوم مش بالعدد .. المدينة كانت ثرية جداً لدرجة إن قلعتها لما تم تخريبها وإحراقها إستخرجوا منها حديد ونحاس ورصاص ومعادن تانية .. المعادن دى عشان تتباع إضطر المسلمين إنهم يعملوا سوق خارج الأسوار والتجار جاتله من كل مكان لإن الكمية كانت أكبر من إن تاجر أو إتنين يشتروها .. فتح أنطاكية كان نصر عظيم للمسلمين إتحقق على يد قائد مجاهد عظيم هو الملك الظاهر بيبرس البندقدارى ..
ـــــ
أخيراً عاوز أقولكم إن من عزة المسلمين وقتها أرسل بيبرس رسالة طويلة جداً كلها تقليل وإهانة لبوهيمند السادس فى طرابلس ذكرها ( بدر الدين العينى ) فى كتابه ( عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان ) تحديداً فى المجلد الثانى وللأسف مش هعرف أكتبها كاملة لكن يكفى أكتبلكم منها الفقرة دى عشان تقدروا عظمة السلطان بيبرس وقتها :
( ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد اللّه منك ما كنت قد أخذته من حصون الإسلام وهو ( دير كوش ) و ( شقيف كفر دوش ) وجميع ما كان لك فى بلاد أنطاكية .. واستنزلنا أصحابك من الصّياصى وأخذناهم بالنواصى وفرقناهم فى الدانى والقاصى .. ولم يبقى شىء يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر فلو استطاع لما تسمى بالعاصى وقد أجرى دموعه ندماً وكان يذرفها عبرة صافية فها هو أجراها بما سفكناه فيه دماً .. وكتابنا هذا يتضمن بالبشرى لك بما وهبك اللّه من السلامة وطول العمر بكونك لم يكن لك فى أنطاكية فى هذه المدة إقامة .. وكونك ما كنت فيها فتكون إما قتيلاً وإما أسيراً وإما جريحاً وإما كسيراً )
ـــــ