الظاهر بيبرس .. قصة قائد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء السادس :
ــــــــــــــــــــــــــ
بعد وفاة الخليفة أحمد المستنصر بالله مكانش ينفع إن الدولة الإسلامية تقعد من غير خليفة وعشان كده إستدعى ( بيبرس ) شخص جديد من البيت العباسى إسمه ( أحمد بن حسن بن أبى بكر ) وأطلق عليه ( الحاكم بأمر الله ) .. الشخص ده كان ضمن الحملة اللى مات فيها الخليفة السابق لكنه نجى ورجع على دمشق .. نفس الإجراءات بالحرف .. نفس المراسم .. نفس المسيرات .. نفس الإجراءات من تعيين المماليك لخدمته والتكفل بنفقاتهم وفى المقابل إعتراف الخليفة الجديد بشرعيته .. الفرق الوحيد إن بيبرس هنا مكانش محتاج الخليفة الجديد فى شيء ..
بيبرس كان محتاج الخليفة الأول لإثبات شرعيته إنما دلوقت خلاص بقى معلوم بالضرورة إن هو السلطان ومفيش سلطان غيره عشان كده همش دور الحاكم بأمر الله تماماً بل إنه بعد فترة مش طويلة حدد إقامته وأجبره على زيارته مرة أول كل شهر .. يعنى الخليفة هو اللى يتحرك لزيارة السلطان وده طبعاً تأكيداً لهيمنته على مقاايد الأمور وإبراز ده للعامة والخاصة .. فوق كده إستقدم عدد تانى من المنتمين للبيت العباسى وسكنهم بمصر عشان يكونوا ورقة تهديد فى وش الخليفة فى حالة إنه فكر فى الخروج عن الإطار المرسوم ليه .. يعنى بإختصار كان مجرد صورة لا بيقدم ولا بيأخر .. الوضع ده عبر عنه المقريزى بوصف دقيق قال فيه :
( وكانت خلافته ليس فيها أمر ولا نهى وحسبه أن يقال له أمير المؤمنين )
وللأسف التصرفات دى هى اللى دعمت وجهة نظر الكارهين لبيبرس اللى أكدوا إنه لم يدعم الخليفة المستنصر فى محاولته إسترداد بغداد وإنه قصد تركه وحيد عشان ميستحوذش على السلطة ويهدد منصب السلطنة ..
ـــــ
فى المرحلة دى ( 660 هجرياً ) بيبرس كان قضى على حالات التمرد الداخلية وأمن شرعيته على المستوى الرسمى بإحتواء الخليفة والسيطرة عليه ومبقاش فاضل قدامه غير التصدى للأخطار الخارجية .. العالم الإسلامى وقتها كان محاط بأكثر من عدو .. فى الشمال أوروبا الغربية والإمبراطورية البزنطية .. فى الشام بواقى الممالك الصليبية واللى كانت بتمثل تهديد بإحتمالية وصول حملات صليبية جديدة .. فى فارس والعراق المغول كانوا متمركزين وبيمثلوا خطورة على بلاد الشام .. فى الظروف دى كان لازم المماليك يتحركوا لحماية المسلمين عشان يبرروا وجودهم فى مركز الحكم .. المماليك لما حكموا مصر حكموها بمقتضى إتفاق ضمنى غير موقع وافق عليه الجميع .. المسوغ الوحيد لبقاءهم فى الحكم كان الدفاع عن الإسلام والمسلمين ومقابل ده هما ليهم الحق فى الإقطاعات والثروات والعز والجاه والسلطان .. فلو مش هتدافعوا عن الإسلام يبقى إيه الداعى لوجودكم ..
من هنا بقى نقدر نركز على بيبرس القائد المجاهد اللى كرس حياته كلها للدفاع عن مقدرات الأمة الإسلامية ..
ـــــ
لو بصينا لقوة الأعداء دول هنلاقى إن الصليبيين فى الشام كانوا هما الحلقة الأضعف .. ممالك متناثرة فى محيط إسلامى كبير لو قدر بيبرس إنه يمنع عنهم الدعم أو على الأقل يقلله فهيقدر بسهولة إنه ينتصر عليهم .. عشان كده كانت أولى خطواته التأكيد على العلاقات الجيدة مع الإمبراطورية البيزنطية بحكم الخلاف المذهبى بينهم وبين الصليبيين فى أوروبا الغربية فعمل تحالف مع إمبراطور بيزنطة ( ميخائيل الثامن باليولوجوس – Michael VIII Palaiologos ) وكمان مع ملك صقلية ( مانفريد – Manfredi di Hohenstaufen )
التحالف ده شجعه على أول إحتكاك بينه وبين الإمارات الصليبية سنة 661 هجرياً فطلع على غزة ومنها توغل لحد قرب عكا وهناك حس الصليبيين بالخطر فبعتوا رسل عشان تترجى بيبرس إنه يتراجع وأعلنوا إلتزامهم بالهدنة .. وبالمناسبة .. بيبرس أكتر من مرة خرق الهدنة اللى وقعها معاهم بس كانت له أسبابه .. يعنى فى المرة دى مثلاً هو مستجابش لطلباتهم لإن الصليبيين كان عندهم أسرى مسلمين من معارك قديمة ومرضيوش يطلقوا سراحهم رغم إلتزام المسلمين بتسليم أسرى الصليبيين طبقاً لشروط الهدنة وده لإن أسرى المسلمين كانوا من العمالة الماهرة فكان الأمراء النصارى بيستخدموهم فى تأدية أعمالهم وبالتالى رفضوا يسيبوهم .. فى المرة دى بيبرس رفض إنه يستجيب لتوسلات الرسل وقالهم :
( ما تقولون ؟ )
قالوا :
( نتمسك بالهدنة التى بيننا )
فقال السلطان :
( لم لا كان هذا قبل حضورنا إلى هذا المكان وإنفاق الأموال التى لو جرت لكانت بحاراً ؟ )
وكمل كلامه فى تقريع طويل للرسل أعتقد المساحة هنا مش هتكفى لكتابته كله عددلهم فيه أخطاءهم وإزاى إنهم خالفوا المواثيق أكتر من مرة وأقام عليهم الحجة وفى النهاية رفض طلباتهم .. بعدها بعت جزء من جنوده إلى الناصرة وجزء تانى لعكا .. جزء الناصرة نهب المدينة وهدم كنيستها وجزء عكا هجم على المدينة مرتين وفى المرتين غنموا عدد كبير من المواشى .. بعدها قرر بيبرس إنه يخرج بنفسه لعكا عشان يختبر تحصيناتها وهناك هدم بعض الأبراج وحرق الأشجار المحيطة بالمدينة وهاجم بابها لكن المدينة كانت حصينة وهو مكانش خرج بجيش كبير يقدر على حصارها أو إقتحامها وهدفه الأساسى كان إختبار دفاعاتها مش أكتر .. بعد كده عدى على كام معقل صليبى فى السريع وعدى على القدس وإستولى على الكرك ورجع تانى على القاهرة ..
ـــــ
بعد سنتين تقريباً وصلت أخبار لبيبرس إن المغول بيتجهزوا عشان يهجموا على مدينة ( البيرة ) فى فلسطين فخَرّج فرقتين كل فرقة فيها 4000 جندى وبعدها خرج بنفسه فى الفوج التالت ولما وصلوا هناك إكتشفوا إن المغول تراجعوا عن الهجوم .. طب إحنا خرجنا دلوقت هنرجع كده من غير ما نعمل حاجة ؟ .. طب والمصاريف اللى إتصرفت ؟ .. بيبرس قالك مبداهاش بقى وقام هاجم على ( قيسارية ) عشان يستعيدها من الصليبيين ..
فى ربيع الأول سنة 663 هجرياً وصل بيبرس لقيسارية ونصب حواليها المجانيق وكانت أسوارها قوية جداً لإن لويس التاسع ملك فرنسا كان قاعد فيها قبل كده فأمر بتحصينها كويس .. بيبرس لما إكتشف حصانة الأسوار أمر جنوده بضرب نقاط ضعف الأسوار بإلمطارق وكان هو بنفسه على رأسهم والروايات ذكرت إن إيديه إتجرحت من كثرة وشدة الضربات لحد ما نجح المسلمين فى حرق أبواب المدينة وعندها هرب الجنود وأهل البلد وإحتموا بالقلعة فدخل بيبرس وحاصرهم فيها وأظهر همة شديدة فى إخضاعهم .. الروايات ذكرت إنه كان بيخرج بنفسه من أول النهار ويرجع قبل الليل والأسهم مغروسه فى ترسه .. يعنى كان بيخاطر بحياته دون خوف وكان دايماً فى الصفوف الأولى .. المهم إن الحصار والهجوم اليومى إستمر لحد ما استسلمت القلعة فى 15 جمادى الأول سنة 663 هجرياً ..
ـــــ
طيب فى الفترة دى يسكت بيبرس .. لأ طبعاً .. همته فى الجهاد كانت عالية ما شاء الله .. عشان كده قسم جيشه لأجزاء .. جزء راح بيسان وجزء راح عكا وجزء راح حيفا وهو بنفسه راح على ( عَثْلِيثُ ) وده حصن موجود قرب حيفا وبالفعل كل الحملات دى نجحت فى مهمتها ورجعوا بالغنائم والأسرى .. بعد كده وجه بيبرس إهتمامه ل ( أرسوف ) ودى الحقيقة كانت أصعب مهمة فى الحملة دى لإنها مدينة كبيرة وأسوارها حصينة وفيها حامية صليبية كبيرة ولكن كالعادة رغبة بيبرس فى الجهاد كانت بتخليه يعمل حاجات محدش يتوقعها ..
الروايات ذكرت ملاحم سطرها بيبرس بنفسه بخلاف اللى عمله جنوده .. أمر بحفر خنادق حوالين المدينة وشارك بنفسه فى الحفر .. كان بيساعد فى جر المجانيق لضرب الأسوار .. كان بيشارك فى الصفوف الأولى زى ما قلنا وقيل إنه ضرب فى يوم واحد أكثر من 300 سهم .. كان بيخرج منفرداً لا يحمل إلا سيفه وترسه ويهجم على الجنود الصليبيين اللى بيخرجوا من المدينة وكان له من المهابة ما يجبر المسلمين والصليبيين على السواء على عدم النظر أو حتى الإشارة إليه حسب رواية المقريزى ..
فضل بيبرس على نفس الدرجة من الجدية والنشاط لحد ما قدر المسلمين إنهم يقتحموا أرسوف يوم 8 رجب سنة 663 هجرياً وعندها أسر كل الجنود اللى فى الداخل وأمرهم بتخريب المدينة وهدم أسوارها وبعدها أقطع الأراضى اللى فتحها دى لبعض أمراءه ورجع تانى للقاهرة ..
ـــــ
رجوع بيبرس للقاهرة كان لمدة سنة واحدة بس خرج بعدها على الشام لإن الأخبار وصلته بإن ( بوهيمند السادس ـ Bohemond VI of Antioch ) حاكم أنطاكية هجم على مدينة حمص فبعت جزء من الجيش على هناك وهو طلع بالجزء التانى على ( عكا ) ومنها إتحرك على ( صفد ) قرب بحيرة طبرية شمال فلسطين ..
فى الحصار ده بيبرس أظهر نشاط ملوش مثيل للأمانة .. يعنى لما راح عكا وهاجمها كان نصب حواليها مجانيق والمجانيق دى بتجرها مواشى طبعاً .. جمال وبقر وكده .. من طول الرحلة بين مدن الشام بداية من الخليل مروراً بعين جالوت وعكا وصولاً لصفد المواشى كانت تعبت من الجر لإن أخشاب المجانيق كانت تقيلة فعلاً وكان قدام بيبرس حل من إتنين .. يا يستنى كام يوم لراحتهم ولكن كان هيخاطر بإن صفد ممكن يوصلها إمدادات فى أى لحظة يا يجر هو وجنوده الخشب بتاع المجانيق .. بيبرس إختار الحل التانى .. أمر الجنود بفك الخشب وشالوه على كتافهم ــ بما فيهم هو والأمراء ــ لحد ما راحوا صفد وحاصروها ..
زى ما انتوا شايفين كده .. بيبرس رحلته بدأت مع الجهاد ومش هتقف لحد وفاته .. وأنا فى السلسلة دى هبتدى بمعاركه ضد الصليبيين الأول وبعدها هكتب عن معاركه ضد المغول عشان يبقى السرد أوضح لإنه أحياناً كان بيحارب على الجبهتين فى نفس الوقت .. حصار صفد منتهاش وفيه قصة لازم تتقال ..
لكن ده هيبقى الجزء الجاى إن شاء الله ..
ـــــ