الصين .. تاريخ نهضة ( ج 5 )

by author page

0 comments 0

إذا أردنا وصف الصين إبّان عهد ( ماو تسى تونج ) فى كلمة واحدة فأقرب كلمة ستكون التطرف .. التطرف فى كل شيء .. نجاح الشيوعية تعنى الإنتقام من الليبرالية وروادها .. تعنى الإنتقام من البرجوازية .. تعنى الإنتقام من الرأسمالية .. إجمع أثرياء الفلاحين وأصحاب الأراضى واضربهم حتى الموت .. إنزع أراضيهم منهم ووزعها على الفلاحين الأكثر فقراً .. إقمع أى إعتراض يمكن أن يسبب لك إزعاجاً .. أقتل كل المسئولين السابقين فى الكومنتانج .. أقتل حتى من يثبت عليه تعاطفه معهم .. أقتل رجال الأعمال والرأسماليين المتهمين بتخزين السلع لإثارة الإضطرابات ضد الحزب .. أقتل تجار الأفيون .. أقتل المثقفين والنشطاء السياسيين المناهضين لحكم الشيوعية .. ومن لا تقتله يكفى أن تقوم بإرساله إلى معسكرات الإصلاح وإعادة التأهيل وهناك سيرى ما يجعله يتمنى الموت .. خلال عامين فقط من إنشاء الجمهورية قتل ما بين مليون إلى إثنان مليون صينى فقط لتثبيت أركان الحكم الجديد .. تلك هى الصين فى بدايات عهد ( ماو ) .. هل تظن أنها النهاية ؟ .. صدقنى تلك هى البداية فقط ..

بعد إنتهاء مرحلة توطيد أركان الحكم بدأ ماو مرحلة الإصلاح ورغم تطرفه الشديد فى التعامل مع المعارضين إلا أن أفعاله ليست كلها سيئة حيث يعود له الفضل فى توزيع الأراضى بشكل عادل على الفلاحين الفقراء وإنهاء الإقطاع ومحاربة تجارة المخدرات وعلاج المدمنين حتى لو بالإجبار وتقليل الإعتماد على الزراعة ووضع أسس النهضة الصناعية وضخ المساعدات السوفيتية فى النشاط الصناعى وضبط أسعار السلع فى الأسواق وإطلاق حملة لتعليم غير المتعلمين وتبسيط الحروف الصينية لتسهيل تعليمهم .. كل ما سبق كان ضمن إيجابيات بدايات حكم ( ماو ) ولكن كما تعلمون فالبدايات دائماً ما تكون مبشرة ..

ــــــ

( دع مائة زهرة لتزهر ومائة مدرسة فكرية للتنافس )

الجملة السابقة هى شعار حملة المئة زهرة التى قرر ( ماو تسى تونج ) تعميمها فى البلاد عامى 1956 و 1957 لإعطاء مساحة للرأى الأخر فى الظهور .. للأسف الحملة لم تكن إلا حيلة من ( ماو ) لطمئنة المخالفين له فى الرأى والذين اضطرتهم الظروف لإخفاء رأيهم .. مظهر أخر من مظاهر تطرف الرجل .. بدأ الليبراليون فى إظهار رؤيتهم للصين الحديثة وبدأ المفكرون فى الإنبراء لمعارضة الحزب الشيوعى وكلما زاد المعارضون فى الظهور شجعهم الحزب علانية وأثنى على رؤاهم السياسية والإقتصادية وعندما تأكد الحزب من عدم وجود معارضين أخرين إنقلب موقفه تماماً .. أكثر من نصف مليون معارض تم التعامل معهم بقسوة ما بين قتل وسجن وتعذيب وترحيل لمعسكرات العمل القسرى لإصلاحهم وتهذيبهم .. وكلما زادت وتيرة حملات الإعتقال كلما خرج الإعلام برسالة واحدة معممة وموجهة لكل أقاليم الصين .. ما تسمعونه من أخبار عن إعتقالات هى أخبار صحيحة تماماً ولكنها إعتقالات موجهة لدعاة الفكر اليمينى الخطير لا أكثر .. أما بالنسبة إليكم أنصار الفكر الشيوعى فأنتم ستكونون عماد نهضة الوطن القادمة ..

هل يكتفى ( ماو ) بما سبق .. كما أسلفنا فالتطرف كان سمة أساسية لعهد الرجل .. الإتحاد السوفييتى خلال الحرب العالمية وما بعدها صنع ثورة صناعية هائلة مكنته من وضع نفسه فى مصاف القوى العظمى وتلك التجربة ألهمت ( ماو ) لتكرارها فى الصين .. معطيات كفلت بأن يعمل عقل الرجل بأقصى طاقته .. لم لا يمكن للصين أن تكون مثل الإتحاد السوفييتى ؟ .. أليست بريطانيا بنت نهضتها بسبب إتجاهها للصناعة ؟ .. لنهجر إذاً الزراعة التى مثلت عماد إقتصادنا لقرون ونرتمى فى أحضان الثورة الصناعية الجديدة .. أيها الشعب الصينى أنتم على موعد مع خطة ماو الخمسية الثانية .. حان الوقت لبرنامج القفزة الكبرى للأمام ..

ــــــ

برنامج القفزة الكبرى للأمام هو البرنامج الذى تخيل ( ماو تسى تونج ) أنه سينقل الصين من كونها دولة زراعية إلى دولة صناعية متقدمة ولأجل تلك الرؤية أصدر أوامره بتحويل المزارعين إلى عمال .. المزارعين فى ذلك الوقت قُسّموا إلى مجموعات صغيرة ضمن مجموعات أخرى أكبر كل منها يتبع مقاطعة ونتاج أعمالها يظهر فى نهاية العام فى تقارير الحكومة المركزية .. ( ماو ) قرر تحويل غالبية تلك المجموعات إلى النشاط الصناعى وبدأ الخطة من الصفر .. ملايين الفلاحين بدءوا على الفور المشاركة فى مشاريع بنية تحتية للصناعات الثقيلة خاصة الحديد والصلب ..

لتعويض العجز المتوقع من نقص عدد المزارعين قام مساعدى ( ماو ) بالإيعاز له بإستخدام أنظمة زراعية لم تكن مجربة من قبل بغية زيادة الإنتاج الزراعى وهو ما وافق عليه بالطبع إلا أن النتائج لم تكن على المستوى المأمول وظهر للجميع تدريجياً مدى حمق برنامج القفزة الكبرى للأمام ولكن لم يجرؤ أحد على إنتقاد الزعيم .. تحول المزارعين للقطاع الصناعى وعدم كفاءة النظام الزراعى الجديد بالإضافة للكوارث الطبيعية المعتادة مثل السيول أو ما شابه أدى إلى نقص فى الإنتاج الزراعى بمقدار 15 % فى العام الأول و 10 % فى العام الثانى ثم 10 % فى العام الثالث ..

تلك الأرقام لا يمكن للزعيم أن يسمع بها .. ما الحل ؟ .. الحل هو تزوير تلك الأرقام وطبقاً للنظام الشيوعى الذى يعتمد بالأساس على التدرج فكان كل مسئول عن مجموعة مزارعين يضخم أرقام إنتاجه وبالتبعية يضخمها المسئول التالى له واستمر الأمر هكذا إلى أن وصل التقرير النهائى إلى ( ماو ) بأرقام توضح إرتفاع فى حجم الناتج الزراعى للبلاد .. ماذا يعنى هذا بالنسبة إلى ( ماو ) ؟ .. بالطبع يعنى مزيداً من الأرباح .. أعطى أوامره لوزرائه بضرورة تصدير الفائض وعرض تقارير الأرباح عليه شخصياً حيث وجدها فرصة لسداد ديونه للإتحاد السوفييتى التى بلغت ما يوازى 295 مليون دولار أمريكى وهو رقم يعد عظيم بمقاييس وقته ..

بالطبع لم يجرؤ أحد على الإعتراف لماو بتضخيمه للأرقام لذا لم يكن هناك مفر من التصدير .. على الفور تم نقل غالبية الإنتاج من المناطق الريفية البعيدة إلى المناطق الحضرية .. جزء يتم إستهلاكه فى تلك المناطق وجزء يتم تصديره والجزء البسيط المتبقى يتم توزيعه على المناطق الفقيرة .. إرتفعت نسبة الصادرات بنسبة 50 % وفى نفس الوقت تم توزيع جزء من إنتاج الحبوب مجاناً دعماً للأنظمة الشيوعية فى كوريا وألبانيا وفيتنام .. النتيجة ؟ .. النتيجة كارثية لأبعد الحدود .. كارثية إلى حد إعطاءها إسماً تاريخياً يليق بها .. مجاعة الصين الكبرى ..

ــــــ

ثلاث سنوات من الجوع والفقر والبؤس بدءاً من عام 1958 وحتى 1961 .. ظروف عمل فى غاية الصعوبة .. تمت عملية الزراعة تحت رقابة صارمة من رجال الحزب ولا يمكن لأى فلاح أن يزرع أرضاً لنفسه .. التقاليد الشيوعية تقضى بأن يعمل الجميع لصالح الدولة ولو بالإجبار وهو ما تحقق حرفياً وقتها .. ساعات عمل طويلة .. أماكن نوم غير ملائمة .. الضرب بالعُصى لمن يثبت تخاذله أو تقاعسه عن أداء دوره .. المرضى والعجائز وأصحاب العاهات كلهم يخضعون لنفس ظروف العمل دزن تفريق .. الأمر بالتدريج بدأ يتحول من ظروف عمل غير آدمية إلى معسكرات إعتقال مفتوحة .. المجاعة تزيد وآثارها لا يجب أن تصل إلى بكين .. لو شعر ( ماو ) أن المجاعة وصلت إلى المناطق الحضرية لكان فى هذا هلاكهم .. إذاً التطرف فى تعذيب العمال لم يكن بهدف التلذذ بتعذيبهم بقدر ما كان حفاظاً على حياتهم الشخصية .. العقاب للمتخاذلين تراوح بين العمل عرايا فى الشتاء إلى إقتلاع الشعر وجدع الأنف وصولاً إلى الدفن أحياء أو إلقاء المرضى منهم فى المياه المغلية .. وبرغم كل ما سبق فالمجاعة وصلت آثارها إلى المقاطعات الحضرية حتى وصل الأمر إلى توزيع الغذاء من خلال كوبونات طعام بنظام الحصص ..

خلال الثلاث سنوات التى مثلت عمر البرنامج وصل عدد الضحايا إلى 15 مليون ضحية حسب التقدير الرسمى المعلن من الحكومة وقتها إلا أن التقديرات غير الرسمية رفعت الرقم إلى ما بين 20 مليون إلى 45 مليون ضحية وهى أرقام إن صحت لتوجب معها وضع ( ماو تسى تونج ) ضمن أكثر طغاه العالم جنوناً وتطرفاً ..

ــــــ

فى الصورة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

أسرة من المزارعين تعانى الجوع والإرهاق فى نهاية يوم من العمل أثناء برنامج القفزة الكبرى للأمام

ــــــ