فى نوفمبر عام 1899 وأثناء حكم سلالة تشينج للصين بدأ خطر التوغل الأجنبى فى البلاد يظهر للعامة .. قرارات الإمبراطورة ( تسى شى ) فى الشئون السياسية والتجارية راعت المصالح الأجنبية بشكل مبالغ فيه وعليه بدأت جمعية مدنية تسمى ( جمعية الحق والقبضات المتآلفة ) فى التحريض ضد التواجد الأجنبى فى الصين عن طريق إنتفاضة ثورية موحدة .. سميت تلك الإنتفاضة بإسم إنتفاضة الملاكمين كون أغلب المشاركين فيها ممن يستعملون تقنيات القتال التقليدى فى الصين مثل الكونج فو والوو شو ..
خلال أيام قليلة بدأ الهجوم من الثوار على كل ما هو أجنبى .. أفراد .. ممتلكات .. مشاريع .. قاموا بمهاجمة المبشرين المسيحيين .. هاجموا الصينيين المسيحيين لأنهم – حسب إعتقادهم – السبب فى وجود أولئك المبشرين وقتلوا منهم آلافاً خاصة فى إقليم شاندونج .. إقتحموا العاصمة بكين وقتلوا قرابة المئتان من البعثات الدبلوماسية الأجنبية ومئات الأجانب العاديين وبينما وقفت الحكومة عاجزة عن التصرف قررت على الفور ثمان دول التدخل لإنقاذ رعاياهم الموجودين بالصين .. بريطانيا .. فرنسا .. إيطاليا .. الإمبراطورية الروسية .. الإمبراطورية الألمانية .. إمبراطورية النمسا والمجر .. الولايات المتحدة الأمريكية .. وأخيراً إمبراطورية اليابان .. قوة مكونة من 20 ألف جندى لحفظ الأمن والنظام داخل الصين ..
فى 7 سبتمبر 1901 تم توقيع بروتوكول بين الصين والثمان دول يقضى بتعويض الصين للضحايا الأجانب وأيضاً تقديم بعض التنازلات مثل أحقية الدول فى تواجد بعض فرقها العسكرية فى إثنى عشر نقطة محددة على طول السكك الحديدية التى تربط بين بكين وتيانجين مع السماح للقوات بإجراء مناورات عسكرية بشكل منفرد أو بشكل تعاونى .. اليابان قررت أن تستغل تلك النقطة لصالحها بسبب طموحها القديم فى أراضى الصين وبحلول عام 1937 بلغت قواتها وحدها قرابة 15000 جندى بخلاف المعدات العسكرية المصاحبة لهم .. لم تكن مجرد قوة لحماية اليابانيين على أراضى الصين وإنما جيش صغير يمكن أن يحيط بالعاصمة بكين خلال أيام ..
ــــــ
بعد حادثة جسر ماركو بولو بأقل من شهر أرسل ( شيانج كاى شيك ) حوالى ستمائة ألف جندى من قاعدة الجيش فى شنغهاى للقاء اليابانيين إلا أن المواجهة إنتهت بالهزيمة بعد دعم الجيش اليابانى لصفوفه وزاد الامر سوءاً عندما تقدم اليابانيين تجاه مقر الحكومة القومية فى نانجينج .. تقدم إنتهى بطرد الحزب القومى من المدينة وحدوث مجزرة نانجينج الشهيرة .. قرابة الثلاثمائة ألف قتيل قتلوا بأبشع الطرق الممكنة حينها .. بسقوط نانجينج إضطر الكومنتانج لنقل العاصمة إلى مقاطعة ووهان ثم نقلها مرة أخرى إلى مقاطعة شونجكين وسط البلاد بعد أن قرروا الإنسياح فى أراضى الصين الشاسعة بغرض إجهاد الجيش اليابانى ..
كل تراجع للجيش الصينى تبعه تقدم للجيش اليابانى ولم يكن أمام ( شيانج ) إلا إستخدام سياسة الأرض المحروقة .. إن كنا سنترك الأرض لليابانيين فلنتركها لهم بلا موارد .. فى مدينة تشنجتشو على سبيل المثال دمر الجيش كل سدود المياه حول المدينة مما تسبب فى فيضان النهر الأصفر ووفاة عشرات الآلاف من سكان المدينة .. فى تشانجشا قام الجيش بحرق المدينة دون إخبار السكان بضرورة رحيلهم مما أدى إلى تدمير المدينة تماماً ووفاة عشرين الفاً من السكان .. تلك الحوادث وغيرها وإن منعت الجيش اليابانى من الإستفادة من موارد المدينة إلا أنها قللت كثيراً من شعبية حزب الكومنتانج بين الصينيين وقللت الدعم الممنوح لهم من المواطنين ..
على الجانب الأخر بدأ الشيوعيين فى تلقى المديح من الشعب لأنهم كانوا أصبر على القتال فى المواقع التى هاجمهم فيها اليابانيين .. مع الوقت ظهر جلياً أن كل طرف فيهم لن يستطيع هزيمة اليابانيين وحده وأن الضرورة تقضى بنسيان خلافات الماضى وتشكيل حكومة دفاع وطنية تضم كل طوائف المجتمع وهو ما دعى إليه ستالين دائماً حيث رأى أن تحالف القوميين والشيوعيين هو السبيل الوحيد للقضاء على اليابان العدو المشترك للصين والإتحاد السوفييتى ..
خلال الثلاث سنوات التالية لتشكيل الحكومة المشركة عانى حزب الكومنتانج من هزائم كثيرة قد تكون بسبب تواجد قواته فى تماس دائم مع القوات اليابانية وقد يكون بسبب التأثر من كثرة الحروب التى خاضوها فى سنوات قليلة .. فى المقابل نما الحزب الشيوعى عدداً وعدة حيث تضاعف عدده عشر أضعاف مع تواصل الدعم السوفييتى له وليس أدل على ذلك من الهجوم الذى قام به أكثر من أربعمائة ألف جندى شيوعى من الجيش الأحمر الصينى لخمس مواقع يابانية عام 1940 مما أدى لهزيمة كبيرة لليابانيين قتل فيها عشرون ألف جندى منهم بالإضافة لخسارتهم منجم الفحم وتدمير خط السكك الحديدية وهو ما يعنى خسارتهم لمصدر الطاقة الأكبر لهم ووسيلة نقل جنودهم الأهم ..
ما سبق يوضح لكم الصورة فى تلك السنوات .. الكومنتانج المنهك بدأت تظهر عليه آثار التراجع بسبب خوضه حروب على أكثر من جهة وضد أكثر من عدو .. والحزب الشيوعى بدأ فى إكتساب دعم الصينيين بسبب شعاراته الشعبوية بالإضافة لإمتلاكه مصدر دعم لا ينقطع من الإتحاد السوفييتى خاصة قبل دخولها الحرب العالمية الثانية رسمياً فى يونيو 1941 .. واليابان بدأت تهتم بأمور أخرى خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب عليها فى ديسمبر 1941 بعد هجوم الطيران اليابانى على بيرل هاربور وبالتالى خفت حدة المواجهات على الجبهة الصينية نسبياً .. يبدو أن موازين القوى فى الصين تتغير بالتدريج ..
ــــــ
مرحلة الحزب الشيوعى الصينى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بإنتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان فيها تم معاقبتها بسحب كل الأراضى التى إحتلتها منها وبالطبع أراضى الصين من ضمنها وتم الإعتراف بسيادة الصين على كامل أراضيها خاصة بعد دورها فى مساعدة جيوش الحلفاء أثناء الحرب .. ماذا تبقى الآن ؟ .. لا شيء .. فلنعد إذاً لما كنا عليه مسبقاً .. إندلعت شرارة الحرب الأهلية الصينية مرة أخرى ولكن بمعطيات وظروف مختلفة .. الولايات المتحدة تساعد حزب الكومنتانج القومى والإتحاد السوفييتى يساعد الحزب الشيوعى والمعارك بينهما مستمرة وتتكرر على فترات حتى بدأت الوتيرة فى التصاعد عام 1949 والتى استطاع الحزب الشيوعى حسم كثيراً من معاركها حتى تجرأ الحزب فى 1 أكتوبر عام 1949 وأعلن عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية التى تضم كافة أراضى الصين ومقاطعاتها ..
بعد قرابة الشهرين وتحديداً فى العاشر من ديسمبر قام الجيش الأحمر بمحاصرة مدينة تشينجتو أخر المدن التى يسيطر عليها حزب الكومنتانج وعندها لم يكن أمام ( شيانج كاى شيك ) أى حلول فقام بجمع قرابة 200 مليون دولار أمريكى وهرب بهم إلى تايوان مستغلاً وضع الجزيرة البعيد نسبياً عن القتال منهياً بذلك تواجد الحزب القومى على أراضى الصين إلى الأبد ..
ــــــ
إنتهت الحرب الأهلية الصينية التى إمتدت لستة عشر سنة على فترتين بخسائر بشرية مهولة قدرت بخمسة عشر مليون ضحية ما بين مدنيين وعسكريين .. إنتهت أيضاً بزوال الحزب القومى تماماً من الحياة السياسية الصينية وبخسائر بشرية كبيرة خاصة فى أخر 4 سنوات من الصراع ..
زوال الحزب القومى له أسباب عدة أهمها هو تفشى الفساد بين قياداته فى حين إتسمت قيادات الحزب الشيوعى بالولاء للحزب وللقضية الشيوعية ككل .. فى الوقت الذى تبرع فيه قادة الشيوعيون بأموالهم لصالح المجهود الحربى إستولى قادة الكومنتانج على كثير من المساعدات الامريكية لهم .. أيضاً ساهمت الدعاية الشيوعية فى إبتعاد الشعب عن الحزب القومى بعدما إدّعوا عليهم أنهم فى إطار صفقة مع اليابانيين لحفظ ممتلكاتهم ومواطنيهم على أراضى الصين وهو ما جعلهم يعانون بشكل دائم من قلة عدد الجنود المنضمين لصفوفهم فى الوقت الذى تضاعف فيه أعداد المنضمين للحزب الشيوعى .. أيضاً إنقسام الصف الداخلى بالكومنتانج وعدم توحد رؤى قياداته .. بعضهم يمينى متطرف وبعضهم ليبرالى معتدل وبعضهم معادى للإمبريالية بما فيها الولايات المتحدة أكبر داعميهم وبعضهم حتى كانت لديه ميول يسارية أخفاها عن الجميع فى حين كان أعضاء وجنود الحزب الشيوعى أوفياء للشيوعية كمبدأ مع قناعتهم الشخصية أنها تلائم الوضع الداخلى الصينى .. من الأن على الصين أن تستعد لعهد جديد ..
ــــــ
من الآن يمكننا التركيز على شخصية ( ماو تسى تونج ) زعيم الصين القوى .. الزعيم صاحب الكلمة العليا فى البلاد على مدار أكثر من خمسة عشر عام قبل أن يتم تهميشه من باقى جنرالات الجيش بسبب قراراته المتهورة .. تهور ؟!! .. فى حالة ( ماو ) نحن نتحدث عن نقطة أبعد كثيراً من التهور .. نتحدث عن الجنون إذا أردنا توصيف أفعاله بدقة .. الشعب الصينى فى ظل حكم الحزب الشيوعى سيعانى الكثير من الممارسات الشمولية ولكن الفرق الجوهرى بين ( ماو ) وغيره من الحكام أنه لم يعبأ أبداً بعدد ضحايا تجاربه السياسية أو الإقتصادية .. دائماً ما اعتقد أن كثرة الشعب الصينى كفيلة بمواجهة أى إنتكاسة قد تصيبه .. كانت له مقولة إشتُهر بها أثناء غزو اليابان لأراضى الصين قال فيها :
( الصين دولة كبيرة المساحة وشعبها تعداده كبير والجيش اليابانى سيعانى إذا ما أراد السيطرة عليهما .. لا يهمنى إن قتل ثلاثمائة مليون من الشعب فى مواجهة اليابانيين طالما سيتبقى ثلاثمائة آخرين لمواجهة المحتل المغتصب )
فلسفة غريبة آمن بها الرجل .. كثرة العدد مع التضحية عاملان كفيلان بتحقيق الإنتصار مهما بلغت الخسائر .. له أيضاً رؤية فى فكرة الثورة حيث خطب يوماً فى أعضاء حزبه قائلاً :
( الثورة ليست حفل عشاء .. ليست مقالة .. ليست لوحة فنية .. ليست أيضاً قطعة ملابس مطرزة .. الثورة ليست فعلاً مهذباً وظريفاً .. الثورة هى تمرد .. هى فعل عنيف تقوم به طبقة من الشعب .. والفعل العنيف عواقبه دائماً عنيفة فعلينا تقبل خسائره إذا أردنا تذوق حلاوته )
أعتقد أننى أعطيتك لمحة سريعة عن طبيعة الشخص الذى ستدور حوله السطور القادمة ..
إستعد عزيزى القارىء .. أنت فى عهد ( ماو )
ــــــ
فى الصورة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
( ماو تسى تونج ) يعلن تأسيس جمهورية الصين الشعبية فى 1 أكتوبر 1949
ــــــ