الصين .. تاريخ نهضة ( ج 3 )

لأول مرة بعد سنوات من التشتت والتشرذم تتحد مقاطعات الصين تحت لواء الجمهورية .. هى إتحدت من قبل تحت حكم ( صن ياتسن ) ولكن قوة الدولة وقتئذ إنقسمت بين القيادة المركزية وأمراء الحرب والشيوعيين .. الآن السلطة فى يد القوميين وحدهم .. الآن صار مطلوباً منهم إنشاء دولة من جديد .. تحديث النظام القضائى مع تعديل قوانين العقوبات .. السيطرة على أسعار السلع .. إصلاح النظام المصرفى ووقف عجلة الإقتراض الخارجى .. دعم النشاط الصناعى والزراعى .. تحسين وتطوير المنشآت التعليمية والصحية فى البلاد .. كل ما سبق يجب أن يتم فى ظل إقتصاد ضعيف قائم على الزراعة ومنغلق على نفسه وجيش مليونى مرهق بفعل كثرة الضحايا وإمتداد القتال لعامين متتالين ..

لو أن الأوضاع هدأت لفترة لكانت هناك فرصة للكومنتانج أن يعيدوا ترتيب الأوضاع بهدوء إلا أن الزخم الثورى الصينى كان فى أوجه خلال تلك السنوات .. الحملة الشمالية وإن أنهت بشكل كبير خطر أمراء الحرب إلا أن خطر الشيوعيين إستمر وإن توارى مؤقتاً .. الشيوعيين تبنوا إستراتيجية أخرى بخلاف إستراتيجية أمراء الحرب .. أمراء الحرب هم بالأساس جنرالات عسكريين ومصدر قوتهم ينبع من أتباعهم المدربين وبالتالى فمواجهاتهم ضد جيش الكومنتانج كانت مواجهات مفتوحة .. حروباً حقيقية بآلات ثقيلة وتكتيكات عسكرية بفرق وكتائب بمختلف تخصصاتها وهو ما أعطى الأفضلية لجيوش القوميين الأعلى تدريباً والأقوى تسليحاً .. أما الشيوعيين وإن إمتلكوا جيوش إلا أن إستراتيجيتهم قامت بالأساس على أسلوب حرب العصابات .. أتباع كثر ينتشرون فى مقاطعات الصين ينشرون الفكر الماركسى ويجذبون أتباعاً جدد للحزب الشيوعى .. التنديد بالفقر وسط مجتمع فقير أشبه بتوزيع حلوى مجانية للجميع .. بالطبع الشعب الصينى المعدم مال أكثر لمن وعده بالتوزيع العادل للثروة وبشعارات الحرية والغد الأكثر إشراقاً ..

إنتشار مبادىء الحزب الشيوعى وقناعة غالبية الشعب بها جعل ( شيانج كاى شيك ) يسرع فى خطته للقضاء على خطر الشيوعية .. حرب ضروس أخرى بدأت فى مايو 1930 وإنتهت فى نوفمبر من نفس العام أطلق عليها حرب السهول الوسطى كون أغلب معاركها حدثت فى مقاطعتى هينان وشينان السهليتان وسط البلاد .. حرب خلفت وراءها 250 ألف قتيل مع كبير لموارد القوميين القليلة بالأساس .. نعم إنتصر الكومنتانج ولكنه إنتصار بطعم الهزيمة .. خزينة الدولة فرغت .. الجيش الذى لم يتعافى بعد من آثار الحملة الشمالية خسر عدد أخر من عناصره .. كيف يمكن للكومنتانج تمويل الجيش لمواجهة أخطار العدو اليابانى المتربص بهم وكيف لهم مواجهة المتبقين من الشيوعيين بالداخل خاصة أن الحرب لم تنهى خطرهم بالكامل بل على العكس فقد أعلن ( ماو تسى تونج ) بعد نهاية الحرب مباشرة إقامة حكومة شيوعية سوفيتية فى مقاطعة جيانجسى ..

الحرب لم تنتهى بعد ..

ــــــ

الغزو اليابانى للصين :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سبتمبر 1931 ..

بعد عشرة أشهر من إنتهاء حرب السهول الوسطى .. ضابط يابانى يدعى ( سيمورى كاواموتو ) يزرع قنبلة على أحد خطوط السكك الحديدية فى مدينة شينيانج عاصمة مقاطعة لياونينغ شمال شرقى الصين .. بعد قليل سيمر على الخط قطار مملوك لشركة سكك حديد منشوريا اليابانية وستنفجر القنبلة لكنها لن تحدث أضراراً تذكر حيث أن كمية الديناميت لم تكن كافية لفصل مسار القطار .. حادثة عرفت تاريخياً بإسم ” حادثة موكدين ” نسبة لإسم مدينة شينيانج القديم ..

اليابان طالما طمعت فى أراضى الصين خاصة إقليم منشوريا فى الشمال الشرقى للبلاد وبموجب معاهدات سياسية تم توقيعها بعد الحرب اليابانية الروسية تم السماح لليابان بتأجير خطوط السكك الحديدة التى تمر بأرض منشوريا ولكنها وإستغلالاً لتردى حالة الصين ككل وتشتت قوتها بين الكومنتانج والشيوعيين قامت بتدبير تلك الحادثة لغزو الإقليم وضمه إلى أراضى اليابان وهو ما تم فعلياً حيث بدأت هجمات جيش الكوانتونج اليابانى المكون من 11000 جندى فى 19 سبتمبر 1931 حتى تمكن من السيطرة على أغلب المدن الكبرى فى الإقليم خلال خمسة أشهر فقط .. بعد إستقرار الأمور فى الإقليم وبسبب الإنتقادات الدولية لليابان قامت بتأسيس دولة صينية صورية على أراضى الإقليم أطلقت عليها إسم ( مانشوكو ) جمعت فيها الكثير من شعب المانشو الذى إنحدرت منه سلالة تشينج أخر من حكم الصين فى العهد الإمبراطورى .. دولة صورية يلزمها بالضرورة حاكم صورى ولم تجد اليابان أفضل من ( بو يى – Pu Yi ) أخر أباطرة الصين لتضعه على العرش .. جبهة قتال أخرى فتحت أمام القوميين ..

ــــــ

فى ظل تلك الظروف توجب على الكومنتانج أن يختار بين إحدى الجبهتين مع التركيز عليها لأن قدراته المالية والعسكرية لم تكن لتسمح له بالقضاء على الجيش اليابانى القوى فى الشمال الشرقى أو جيش الشيوعيين فى الجنوب الشرقى .. ( شيانج كاى شيك ) إختار الهجوم على العدو الأضعف من وجهة نظره .. إختار الهجوم على الشيوعيين ..

فى أكتوبر 1934 بدأت أولى تحركات القوميين للهجوم على الحزب الشيوعى فى مقاطعة جيانجسو فى أقصى الشرق .. تعداد القوميين كان كبيراً للحد الذى أجبر قادة الشيوعيين على إتخاذ قرار الإنسحاب التكتيكى ناحية الغرب .. أى أنهم غاصوا أكثر فى مناطق نفوذ القوميين .. خطأ تكتيكى كبير ولكن تكلفته بالتأكيد أكبر .. من أصل 85000 جندى شيوعى نجى فقط 35000 إستمروا بالإتجاه غرباً فى محاولة يائسة للإنضمام لأحد الجيوش الشيوعية الأخرى فى وسط البلاد .. مع الوقت إتضحت الصورة أكثر لقادة الشيوعيين .. الكومنتانج لم يهاجم جيانجسو بوصفها مركز للحزب الشيوعى فقط .. الكومنتانج حاصر كافة الجيوش الشيوعية فى البلاد ..

تلك لم تكن مجرد معركة ..

كانت أقرب لعملية إبادة ..

ــــــ

الوضع الجديد أظهر للشيوعيين ضرورة أن يتحول تحركهم من مجرد تكتيك عسكرى إلى محاولة للنجاة .. إنسحاب شامل تجاه الوسط ثم إلى الغرب ثم إلى الشمال فى محاولة للإنضمام لأحد الجيوش الشيوعية الرئيسية .. المسيرة الطويلة كما تم الإصطلاح عليها تاريخياً .. قرابة ال 9000 كيلو متر خلال 370 يوم وعدد ضحايا إقترب من ال 80000 .. مسيرة شملت المرور بإثنى عشر مقاطعة و 24 نهر .. قمم جبلية وصحارى لا تنتهى ومناطق فى غاية الوعورة فى ظروف مناخية فى غاية القسوة إنتهت بالوصول لمقاطعة شنشى فى شمال البلاد ..

بمجرد الوصول إلى شنشى قام الحزب بإعادة ترتيب أوراقه .. جمع أعضاؤه وعزز صفوفه وحصن موقعه وأعاد ترتيب القادة .. بسبب المعارك التى جرت على مدار العام قتل أغلب قادة الحزب الكبار وهو ما أفسح المجال إلى ( ماو تسى تونج ) لكى يتولى قيادة الحزب .. الكل انتظر هجوم شامل من الكومنتانج إلا أن ذلك لم يحدث .. الحزب الشيوعى استطاع التماسك حتى عام 1937 .. فى ذلك العام حدث شيء غير متوقع .. شيء غير كثيراً من المعطيات على الأرض ..

القوميين والشيوعيين سيتحالفون مجدداً ..

ــــــ

الأسبوع الأول من يوليو عام 1937 ..

جندى يابانى يدعى ( شيمورا كيكوجيرو ) يتخلف عن فصيلته العائدة لموقعها بعد إجرائها تدريبات معتادة .. طلب القائد اليابانى من نظيره الصينى الدخول لمناطق الصين للبحث عن الجندى إلا أنه رفض فتسبب ذلك فى غضب أعضاء الفرقة اليابانية وعلى الفور بدأ الحشد بين الطرفين قرب جسر يبعد حوالى 15 كيلو متر جنوب غرب العاصمة بكين .. وعلى الرغم من عودة الجندى لاحقاً إلا أن الإحتقان والتربص بين الطرفين كان قد بلغ أشده وهو ما تسبب فى إندلاع الحرب اليابانية الصينية الثانية ..

جدير بالذكر أن الحادثة يطلق عليها فى الصين حادثة جسر ( لوجوكياو – Lugouqiao ) وفى اليابان يسمونها حادثة ( جسر روكوكيو – Rokōkyō Jiken ) إلا أنها معروفة تاريخياً بإسم حادثة جسر ماركو بولو نسبة إلى الرحالة الإيطالى ماركو بولو أول الغربيين الذين مروا بطريق الحرير حتى وصل إلى الصين والذى ذكر الجسر فى كتابه رحلات ماركو بولو ..

ــــــ

فى الصورة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الإمبراطور ( بو يى ) أثناء حكمه لدولة ( مانشوكو ) الصورية

ــــــ