الجزء الأول
الصين .. من أين نبدأ ؟ .. تحديد ذلك يعد أمراً صعباً بالتأكيد .. تاريخ طويل من الإضطهاد والدموية والحروب الأهلية .. أقل إضطراب يتسبب فى مقتل مئات الآلاف بحكم العدد الكبير للشعب الصينى .. تماشياً مع السياق التاريخى لهذا الكتاب وتركيزه على التاريخ الحديث للدول فأعتقد أن سرد قصتنا بداية من القرن العشرين سيعد أمراً مقبولاً .. زوال الحكم الإمبراطورى والحرب الأهلية بين اليمين واليسار والإضطهاد الذى يصل لمرحلة الإستعباد مع إستيلاء الحزب الشيوعى على مقاليد الأمور كلها أسباب تدعم إختيارى .. ماذا ننتظر إذاً .. ثورة شينهاى فى الإنتظار .. الإمبراطور ( بو يى – Pu Yi ) ذو الست سنوات سيرحل حتى قبل إدراكه لحدود إمبراطوريته ..
ــــــ
مرحلة الإمبراطورية الصينية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى نهاية القرن التاسع عشر إندلعت الحرب اليابانية الصينية الأولى والتى استطاعت اليابان الإنتصار فيها وضمت على إثرها تايوان ومجموعة من الجزر على ساحلها الغربى تدعى جزر بانتشو وهى هزيمة لم تكن متوقعة من قبل القادة الصينيين كونهم نظروا دائماً إلى اليابان على أنها أمة أقل شأناً من حيث عدد السكان أو المساحة .. قبل تلك المعركة قررت اليابان الإنفتاح على الغرب المتطور فاستوردت منه أسلحة أحدث وتلقت تدريباً أعلى من نظيرتها الصينية فى حين لم يكن الإمبراطور الصينى يعطى لتلك الأمور أهمية رغبة منه فى الحفاظ على التقاليد الصينية وعدم تأثرها بالثقافة الغربية .. بهزيمة الصين تغيرت أمور كثيرة فى عقل الإمبراطور ..
فى ذلك الوقت حكم الصين إمبراطور يدعى ( زايتان – Zaitian ) وإسمه الملكى هو ( جوانجشو – Guangxu ) ومعناه هو الخلافة المجيدة .. عام 1898 رأى ( جوانجشو ) أن الصين تحتاج إلى إصلاح سياسى وأن دعم الجيش عسكرياً فقط لا يكفى خاصة بعدما رأى غريمته اليابان قد سبقت بلاده كثيراً بإستيرادها للأسلوب الإدارى الغربى وعليه قرر بعد مشاورة معاونيه تطبيق إصلاحات سياسية وإجتماعية أُطلق عليها ( إصلاحات المئة يوم – Hundred Days’ Reform )
الإصلاحات شملت إنشاء جامعة فى بكين يتم فيها تدريس الفنون والرياضيات والعلوم بدلاً من التركيز على النصوص الكونفوشيوسية .. أيضاً شملت إنشاء مدارس زراعية مع تعميمها فى كل مقاطعات البلاد .. القضاء على الرشوة والفساد وتعديل نظام الأجور مع تطبيق النظام الرأسمالى بالتدريج كانوا من أولويات تعديلاته .. دعم النشاط الصناعى والتجارى بإنشاء مصانع لمختلف الحرف اليدوية .. إنشاء هيئة للسكك الحديدية .. تحديث الجيش عسكرياً وإدارياً .. وأخيراً تغيير النظام الملكى من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية وهو ما يعنى سحب كثير من سلطات الإمبراطور ليضعها فى يد حكومة منتخبة ..
لتطبيق إصلاحات مثل تلك وحسب النظام الصينى توجب على الإمبراطور إستشارة مجلس من الحكماء قبل إقرارها رسمياً إلا أنه وبسبب تأكده من رفض المجلس بحكم سيطرة المحافظين عليه شرع فى تنفيذها منفرداً .. بعد 103 يوم قام المجلس بقيادة الأرملة ( تسى شى ) بالإنقلاب على الإمبراطور ومن ثم وضعه قيد الإقامة الجبرية فى القصر الصيفى .. أسباب إنقلابهم على الإمبراطور تمثل حسب وجهة نظرهم فى تقليده لأمة أقل شأناً مثل اليابان مع سماحه بإنتشار الثقافة الغربية بين الشعب الصينى ..
الإمبراطور إلى الإقامة الجبرية والأرملة ( تسى شى ) إلى كرسى العرش ..
ــــــ
14 نوفمبر 1908 ..
( الإمبراطورة تسى شى – Empress Dowager Cixi ) تعانى آلام شديدة بسبب مرضها .. ترفع يدها إلى أحد المحيطين بها فيأتيها مسرعاً .. تهمس فى أذنه بكلمات لم يسمعها غيره فيومىء لها برأسه كناية عن فهمه لما تريد ثم يخرج من حجرتها على الفور .. بعد عدة ساعات ينتشر بين الناس خبر وفاة ( جوانجشو ) الإمبراطور السابق عن عمر 37 عاماً فقط ..
فى اليوم التالى يشتد عليها المرض فتطلب الإجتماع بمجلس الحكماء وتعلن لهم أخر وصاياها :
” أيها السادة .. لقد إخترت لكم ولياً جديداً للعهد وأرجو منكم قبوله وعدم الإعتراض عليه .. لقد إخترت لكم إبن الأمير ( زايفينج ) “
لحظة صمت تعم المكان .. ظن الجميع أنها تهزى بسبب مرضها فسألوها :
” سيدتى .. هل تقصدين أن الأمير ( زايفينج ) هو ولى عهدك الجديد ؟ “
فأعادت عليهم كلماتها بمزيد من التوضيح :
” لا .. لقد إخترت لكم إبن الأمير ( زايفينج ) من زوجته ( يولان ) .. ولى عهدكم الجديد هو الأمير ( بو يى ) “
ــــــ
ما فات كان غريباً إلى حد ما .. لو أن ولاية العهد ذهبت إلى الأمير ( زايفينج ) لكان الأمر مفهوماً أما أن تختار الإمبراطورة طفلاً لم يتجاوز الثالثة من عمره ليكون قائداً مستقبلياً للبلاد فهذا ما لم يستوعبه مجلس الوزراء .. على أى حال توفت الإمبراطورة ( تسى شى ) فى نفس اليوم ومعها توجب على الجميع تنفيذ الأمر .. تم إنتزاع الطفل ( بو يى – Pu Yi ) من والديه وهو يصرخ ثم تنصيبه على عجل وهو يبكى .. إزداد الأمر سيريالية حين اضطر مجلس الحكماء لتقديم الحلوى للإمبراطور الصغير كى يهدأ وقت الإجتماعات .. بالطبع لم يكن ( بو يى ) هو الحاكم الفعلى وإنما قامت بالوصاية عليه إمبراطورة أخرى تدعى ( يهينارا جينج فين – Yehenara Jingfen )
النظام الإمبراطورى على ما يبدو كان فى مرحلة أفول .. نظام لا يستطيع تحديث الصين مثل جيرانها .. نظام لا يحسن إختيار من يجلس على العرش .. نظام بالكاد يستطيع إخماد وتيرة الإنتفاضات التى دعمها السياسى التحررى ( صن ياتسن – sun yat-sen ) الذى دعى لإنهاء النظام الإمبراطورى وإتخاذ النظام الجمهورى أساساً لحكم البلاد .. نظام واضح أنه يضعف بإستمرار ولكى يستمر حكمه للبلاد توجب عليه إستخدام كل موارده لقمع الإنتفاضات المتتالية ضده .. موارد إيجادها يعد مستحيلاً فى ظل الفقر المتفشى فى البلاد .. الحل البديل تمثل فى الإقتراض الخارجى ولكن لكى تقترض يجب عليك التنازل عن شيء ما والصين وقتها لم تكن تملك أغلى من أراضيها بالإضافة لخطوط سككها الحديدية .. قرض دولى بستة ملايين جنيه إسترلينى ممول من أربعة دول هى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا والمقابل بالطبع سيكون باهظ جداً .. مقاطعة شاندونج للإمبراطورية الألمانية .. هونج كونج للإمبراطورية البريطانية .. أما السكك السكك الحديدية فيستفيد منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا .. نظام قرر أن يتخلى عن سيادته للدول الإستعمارية مقابل أن يقمع معارضيه فى الداخل ..
الثورة هى الحل إذاً .. حرب أهلية تم تسميتها بثورة شينهاى أو ثورة الخنزير المعدنى لأنها قامت فى السنة المسماه بذلك الإسم حسب التقويم الصينى .. خسائر كبيرة أجبرت النظام الإمبراطورى على التخلى عن السلطة بعد أن سيطر القوميين على نصف البلاد .. تنازلت وصية العرش الإمبراطورة ( يهينارا جينج فين ) وقام رجل الجيش ( يوان شى كاى ) بعقد تسوية سياسية مع ( صن ياتسن ) زعيم ( الرابطة الثورية المتحدة –Tongmenghui ) تقضى بإنشاء حكومة جديدة تضم أفراداً من الطرفين إلا أن ( صن ياتسن ) لم يرغب بالتعاون مع النظام وعاد الإنقسام السياسى مرة أخرى بالتدريج .. إنقسام سيستمر لسنوات عديدة وسينتج عنه موالون للنظام الليبرالى الحديث وهم أتباع ( صن ياتسن ) وموالون للتقاليد الصينية سيجد بعضهم غايته فى الإنتماء للشيوعية خاصة بعد إنتصار الثورة البلشفية فى روسيا وتأسيس الإتحاد السوفييتى .. الصراع السياسى الآن سيأخذ شكلاً مغايراً عما سبق ..
شكلاً أكثر عنفاً .. وأكثر دموية ..
ــــــ
فى الصورة :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السياسى التحررى ( صن ياتسن ) أول رئيس لجمهورية الصين عام 1912
ــــــ