المستنصر بالله كان فاكر إن بقتل ناصر الدولة بن حمدان هترجع الأمور لطبيعتها وإبتزاز الأتراك ليه هيقل لكن الواقع كان عكس كده تماماً والأمراء اللى قتلوا ناصر الدولة إبتزوه أكتر من الأول وبقى هم كل واحد منهم تحقيق أكبر مكسب ممكن زى ما عمل اللى قبله .. الوضع ده خلى المستنصر يلجأ لأخر أوراقه المتاحة .. بص على خريطة دولته اللى عماله تتآكل يوم بعد يوم ملقاش أنسب من والى عكا ( بدر الدين الجمالى ) عشان يستنجد بيه ..
بدر الدين الجمالى .. مملوك أرمنى محدش كان يعرف عنه حاجة ولا حتى ذكرته كتب التاريخ بأى شيء فى بداياته .. بصراحة هو مكانش مملوك مشهور لكنه بالعمل والإجتهاد والسمع والطاعة لسيده ( جمال الدين بن عمار ) حاكم طرابلس واللى منه إكتسب لقبه ” الجمالى ” قدر إنه يحصل على حريته ويترقى فى المناصب لحد ما وصل إنه يبقى والى دمشق ويكتسب لقب جديد هيرافقه لحد ما يموت .. لقب ” أمير الجيوش “
مع الوقت غالبية مدن الشام الكبرى إنتفضت ضد الدولة العبيدية زى حلب وطرابلس ودمشق اللى ثارت ضد الجمالى نفسه .. ده حصل بالتزامن مع صعود الدولة السلجوقية فى الشرق وتراجع الدولة العبيدية بسبب المجاعة فى مصر .. فى الوقت ده بيبعت الخليفة المستنصر لبدر الدين الجمالى وبيوليه على عكا وبيأمره إنه يضبط أمور مدن الساحل الشامى ويحافظ عليها قدر الإمكان وبالفعل الراجل بينجح فى ده بشكل مقبول جداً فكان ولاؤه وحسن إدارته هما السبب الرئيسى إن المستنصر يبعتله بعد كده عشان ينقذه فى مصر ..
ـــــ
بدر الجمالى وافق على طلب المستنصر لكنه إشترط عليه إنه ييجى مصر بعساكره وإنه يسمحله بالتخلص من عسكر مصر بالكامل فلما وافق المستنصر إتحرك الجمالى من عكا فى أوائل سنة 466 هجرياً ومعاه 100 سفينة مليانة عساكر وذخائر وطلع بيها على دمياط ومنها على قليوب وهنا تختلف الروايات :
” شهاب الدين النويرى ” قال إنه بعت أمراؤه فى أحد الليالى وأمرهم إنهم يتفرقوا وكل واحد منهم يبقى مسئول عن قتل قائد من قادة الأتراك وبالفعل بيقدروا يعملوا ده وكل واحد منهم بيرجع برأس أمير تركى وبعدها بيدخل الجمالى القاهرة بسهولة ..
الحقيقة الرواية دى مش شايفها واقعية أبداً لإن بالمنطق والعقل الأمراء الأتراك دول فى وضع تمكين وبالتالى فأكيد بيوتهم محمية كويس ومسألة التسلل ليها وقتلهم والخروج مش هتكون بالبساطة دى خاصة إن رجالة بدر الجمالى دخلوا القاهرة فرادى حسب الرواية وبالتالى فنجاحهم فى مهمتهم بالسرعة دى تقريباً مستحيل ..
ـــــ
الرواية التانية هى رواية المقريزى ودى أنا شايفها منطقية أكثر .. المقريزى قال إن بدر الجمالى دخل القاهرة فى قلة من رجالته وساب أغلبهم فى قليوب ووضح لأمراء الأتراك إنه جاء للزيارة وإنه إشتاق لرؤياهم ليس أكثر وأظهر لهم الود والمحبة بل وزاد على كده إنه مجابش سيرة المستنصر ولو جابها فكان بيشتمه ويهينه ويقلل منه ..
خلال أيام تلقى الجمالى واجب الضيافة فكان بياكل ويشرب فى بيوت الأمراء وزادت الألفة بينه وبينهم لحد ما اطمنوا له .. فى نفس الوقت كان هو موصى رجالته يدخلوا القاهرة على دفعات وبشكل شبه فردى لحد ما إتجمع له حوالى 900 فارس وعندها دعا أمراء الأتراك لوليمة على شرفهم وقالهم إنه بصدد مناقشة موضوع مهم يخصهم .. حاجة كده أشبه بمذبحة القلعة بتاعة محمد على .. الإختلاف الوحيد إنه مقتلهومش فى الإجتماع ده لإن كل أمير منهم كان جاى برجالته وعزوته وهو مكانش معاه قوات كافية لده كله فخلاهم ياكلوا ويشربوا ويسكروا براحتهم وفى أخر الليل بعت مع كل واحد منهم واحد من رجالته يوصلهم لبيوتهم وهناك الأمير ده بيقبض عليه ويجبره على الإعتراف بمكان أمواله وبعدين يقتله ويستولى على بيته وممتلكاته ..
خلال الليلة دى بيقدر بدر الجمالى إنه يتخلص من الغالبية العظمى من أمراء الأتراك وبيستولى على ممتلكاتهم فى مصر وبكده بيقضى على أى معارضة ممكن تقف قدامه بعد كده .. ومش بيكتفى بكده .. ده بيتوسع جداً فى قتل المعارضين من الوزراء السابقين وأرباب الدولة وكل رؤوس الفساد من وجهة نظره لحد ما المعارضة الداخلية إختفت تماماً .. أما بالنسبة للمعارضين خارج القاهرة فخلال 4 سنين قدر الجمالى إنه يقضى على كل حالات التمرد اللى ظهرت فى إسكندرية والبحيرة والقليوبية وأسوان .. وبالقضاء عليهم عاشت مصر لأول مرة من سنين طويلة حالة من الإستقرار الأمنى ..
ـــــ
على المستوى الإقتصادى بقى فالجمالى نجح فيه بعد ما لغى الضرائب على الفلاحين ومد الترع ونظف مجارى المياه وأمّن الطرق .. فاللى كان خايف من الخروج بدأ يخرج ويزرع ويشتغل ومع الوقت إنتعشت الزراعة والتجارة .. دى كانت الإستراتيجية طويلة الأجل .. أما بخصوص الحلول السريعة للقضاء على المجاعة ففى رواية ظريفة ذكرها المقريزى فى كتابه ” إغاثة الأمة بكشف الغمة ” لكنه مذكرش إسم الجمالى صراحة واكتفى بذكر إن بطلها هو والى القاهرة وبما إن الوالى اللى نجح فى القضاء على المجاعة هو بدر الجمالى فاحنا إفترضنا إنه هو .. الرواية بتقول الآتى :
( وأخرج من الحبس قوماً وجب عليهم القتل – المقصود الوالى – وأفاض عليهم ثياباً واسعة وعمائم مدورة وطيالس سابلة – ملابس التجار – وجمع تجار الغلة والخبازين والطحانين وعقد مجلساً عظيماً وأمر بإحضار واحد من القوم فدخل فى هيئة عظيمة حتى إذا مثل بين يديه قال له :
” ويلك .. أما كفاك أنك خنت السلطان واستوليت على مال الديوان إلى أن خربت الأعمال ومحقت الغلال فأدى ذلك إلى اختلال الدولة وهلاك الرعية؟ .. إضرب رقبته “
فضربت فى الحال .. وتركه ملقى بين يديه ثم أمر بإحضار أحد آخر منهم فقال له :
” كيف جَسُرت على مخالفة الأمر لمّا نُهى عن إحتكار الغلة؟ .. وتماديت فى إرتكاب ما نهيت عنه إلى أن تشبه بك سواك فهلك الناس .. إضرب رقبته )
فضربت فى الحال .. واستدعى آخر فقام إليه الحاضرون من التجار والطحانين والخبازين وقالوا :
” أيها الأمير .. فى بعض ما جرى كفاية .. ونحن نُخرج الغلة وندير الطواحين ونُعمر الأسواق بالخبز ونُرخص الأسعار على الناس ونبيع الخبز رطلاً بدرهم “
فقال :
” ما يقنع الناس منكم بهذا “
فقالوا :
” رطلين “
فأجابهم بعد الضراعة .. ووفوا بالشرط وتدارك الله الخلق .. وأجرى النيل .. وسكنت الفتن .. وزرع الناس وتلاحق الخير .. وانكشفت الشدة وفرجت الكربة )
ـــــ
مش باقى غير إننا نتكلم عن صحة الروايات اللى إتكلمت عن الشدة المستنصرية لإن فى عدد مش قليل من المعاصرين شايف إن فيها مبالغات كبيرة وعقولهم مش مستوعبة إن إزاى فى بشر يصل بيهم الحال إنهم ياكلوا بعض أحياء ..
بص يا سيدى .. فى البداية لازم نأكد على إن الجوع ممكن يخلى البنى أدم يعمل أى حاجة .. ربنا ما يورى حد .. الإشراف على الموت جوعاً ممكن يخلى الإنسان يتصرف تصرفات لايقبلها عقل أو منطق .. فطرة الكائنات الحية المجبولة على حب البقاء أحياناً بتنزع الإنسانية نزعاً من نفوس البشر .. عاوز أمثلة ؟ .. الألمان بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية مكانوش لاقيين أكل ياكلوه فكانوا بيلفوا فى الشوارع يدوروا على الحيوانات الميتة وفى صور منتشرة على الإنترنت لألمان متجمعين حوالين حصان ميت بيقطعوه عشان ياكلوه .. فى الحرب العالمية الأولى وأثناء حصار إحدى الفرق الإنجليزية اضطروا إنهم يذبحوا الخيول وياكلوها بدل ما يموتوا من الجوع .. فى البرازيل فى منتصف التسعينات التضخم وصل ل 2500 % على أساس سنوى .. السلع سعرها كان بيزيد بشكل يومى لحد ما الناس عجزت إنها توفر إحتياجاتها الأساسية .. معدلات الجريمة زادت لدرجة جنونية والقتل والخطف بقى موجود بشكل يومى واللى بيتخطف الله أعلم كان بيتعمل فيه إيه وهسيب الموضوع لخيالكم .. العصابات هناك إتكونت لسرقة الأكل مش لسرقة الفلوس لإن الأكل ببساطة كان لايقدر بثمن .. يعنى بإختصار موضوع أكل الميتات سواء حيوانات أو بشر وارد إنه يحصل فعلاً ولكن فى الحالات شديدة القسوة ..
ـــــ
طيب ليه بعض الناس بتشكك فى الروايات دى ؟
لعدم منطقيتها من وجهة نظرهم .. الروايات بتقول إن 7 من كل 9 مصريين ماتوا فى الشدة المستنصرية يعنى 80 % تقريباً فهل ال 20 % الباقيين قادرين إنهم يقوموا بلد بحجم مصر فى الفترة القصيرة دى .. إحنا بنتكلم عن أقل من 5 سنين !!
كمان لإن اللى كتبوا عنها مكانوش معاصرين للحدث نفسه .. تعالوا نبص لأبرز اللى أرّخوا للموضوع ده :
ابن الأثير إتولد سنة 555 هجرياً
النويرى إتولد سنة 677 هجرياً
ابن كثير إتولد سنة 701 هجرياً
المقريزى إتولد سنة 764 هجرياً
ابن تغرى بردى إتولد سنة 813 هجرياً
الشدة المستنصرية بدأت سنة 457 هجرياً .. يعنى ابن الأثير اللى هو أقرب مؤرخ للحدث إتولد بعدها بحوالى 100 سنة وكمان هو مذكرش حرف عن موضوع أكل الناس لبعضها .. لو فتحتوا كتاب الكامل فى التاريخ من صفحة 1481 إلى صفحة 1484 هتلاقوا إبن الأثير ذكر بإيجاز كل تفاصيل الشدة من بدايتها لنهايتها وقال إن كان فى غلاء ومجاعة ووباء ووفيات كتير جداً لكنه مذكرش ولا حرف واحد عن أكل الناس لبعضها وده ممكن يدينا مؤشر إن اللى إتكتب بخصوص النقطة دى كانت مبالغات من المتقدمين خاصة المقريزى ..
طب ليه المبالغات من الأساس ؟
المبالغات كانت طبيعة المؤرخين القدامى .. يعنى كانوا بيحبوا يزودوا أعداد الجيوش مثلاً أو أعداد الضحايا وهكذا .. فى حالتنا هنا فالحدث حصل فى عهد دولة شيعية مكروهة من كل المؤرخين اللى إتكلموا عنها فوارد جداً يكونوا بالغوا فى الوصف إنتقاصاً من الدولة وحكامها فى محاولة لتأكيد إنها كانت دولة ظالمة للعباد ..
لكن حتى دى مردود عليها لإن المؤرخين دول ذكروا مجاعات تانية شبيهة بل يمكن أقسى فى عهد دول سنية زى الدولة الأيوبية مثلاً .. المقريزى وإبن إياس الحنفى وصفوا ظاهرة أكل الناس لبعضهم بتفاصيل دموية جداً ضمن أحداث 597 هجرياً وما بعدها فلو كانت النية موجهة لتشوية الدولة العبيدية الشيعية يبقى ليه يشوهوا الدولة الأيوبية اللى قضت عليها ؟!
طيب إيه الحل فى المعضلة دى ؟
مفيش حل للأسف .. مفيش غير إننا نقرأ كل الروايات ونحكمها للعقل والمنطق ونقبل المنطقى منها ونرفض الباقى .. وأخيراً أرجو إنى أكون وفقت فى العرض وأسأل الله لى ولكم الهداية والتوفيق ..
تحياتى لحضراتكم ..
ـــــ