الشدة المستنصرية من البداية إلى النهاية – ج 4

الشدة المستنصرية بدأت فعلياً سنة 457 هجرياً .. طبعاً بدأت بنقص مياه النيل وبالتالى نقصت السلع فى الأسواق وزادت أسعارها .. غلاء زى أى غلاء تانى مر على مصر لكن بسبب كل العوامل اللى ذكرناها فى الأجزاء اللى فاتت فالموضوع إتطور بسرعة لحد ما إتحولت لمجاعة مشافتش مصر زيها أبداً .. المقريزى لما حكى عن بداية الأزمة قال :

( ثم وقع فى أيام المستنصر الغلاء الذى فحش أمره وشنع ذكره وكان أمده سبع سنين .. وسببه ضعف السلطنة وإختلال أحوال المملكة .. وإستيلاء الأمراء على الدولة .. وإتصال الفتن بين العربان .. وقصور النيل .. وكان ابتداء ذلك فى سنة سبع وخمسين وأربعمائة )

فى الفترة دى لو تفتكروا كانت الدولة دخلت مرحلة صعبة من الترهل الإدارى فمكانش بيعيش لمصر وزير وبالتالى إختلت السياسات الإقتصادية وده برضه ساهم فى زيادة الأسعار .. المؤرخ ” ابن تغرى بردى ” قال إن سعر أردب القمح سنة 459 هجرياً كان وصل ل 80 دينار وفى سنة 461 هجرياً وصل الأردب ل 100 دينار .. وبما إن الأزمة كانت ليها أمارات واضحة ففى سنة 460 هجرياً سافرت السيدة رصد وحفيداتها بنات المستنصر على العراق خوفاً من الموت جوعاً خاصة إن فى السنة دى الأتراك إنتصروا على الجنود السودان فى الصعيد وفقدت أم الخليفة أى فرصة للسيطرة على مقاليد الأمور فى مصر فكانت الهجرة للعراق أفضل حل ليهم وقتها وفضل المستنصر لوحده يواجه الأزمة ويواجه تجبر الجنود الأتراك عليه ..

ـــــ

3 سنين والوضع بيسوء بالتدريج .. خلاص .. الناس هتموت من الجوع فعلاً والأسواق مفيهاش بضاعة والأتراك بيحاربوا السودان فى إسكندرية والبحيرة والصعيد والبلد مفيهاش أمن وبالتالى التجارة شحت جداً وبقى فى خطورة على القوافل التجارية إنها توصل للبلد بأمان بسبب قطاع الطرق اللى استغلوا حالة الإنفلات الأمنى الموجودة .. حتى التجار اللى إشتروا ممتلكات الخليفة بعد ما الأمراء الأتراك أجبروه على بيعها عشان يدفعلهم مرتباتهم لقوا صعوبة فى إخراجها من البلد بسبب قطاع الطرق فاضطروا إنهم يحرقوها رغم روعتها عشان يستخلصوا منها الذهب والفضة والجواهر فيسهل عليهم حملها وإخراجها من البلد .. وضع مزرى أجبر الناس لأول مرة على أكل جثث الحيوانات النافقة .. إتقال عن السنة دى :

( واشتد الغلاء بمصر .. وقلت الأقوات فى الأعمال .. وعظم الفساد والضرر .. وكثر الجوع حتى أكل الناس الجيف والميتات )

لحظة الإنهيار كانت سنة 461 هجرياً وما بعدها .. السنة دى حرفياً كانت البداية الحقيقية لأحداث غاية فى الدموية هتحصل فى مصر .. وأنا أسف إنى هكتبلكم نص الروايات الأصلية رغم كثرتها لإن الموضوع صعب الوصف بصراحة .. بص يا سيدى .. طرق التجارة وقفت تماماً ومبقاش فى ولا سلعة فى الأسواق .. أمراء الأتراك لما فلوس الخليفة خلصت قسموا البلد على بعض وكل أمير منهم خد حتة يجمع منها اللى يقدر عليه .. يعنى الأرض بناسها بأراضيها بخراجها كله فى جيب الأمير ورجالته ودول لو إكتشفوا إن حد من الناس مخبى رغيف عيش كانوا خدوه ..

ـــــ

فى الوقت ده إتباعت البيضة بعشر قراريط أرض .. دار ثمنها الطبيعى 900 دينار إتباعت ب 90 بس و ال 90 دول إتدفعوا مقابل شوال دقيق .. مع إشتداد الأزمة إتباعت حارة كاملة فيها عشرين بيت مقابل طبق فيه 20 رغيف خبز لدرجة إن الحارة دى إتسمت بعد كده بإسم حارة الطبق .. شربة المياه كانت بدينار .. العيش كان بيتباع كما تباع التحف حسب وصف المقريزى وقيل إن فى مرة إتباع رغيف خبز وزنه رطل فيما يشبه المزاد لحد ما وصل سعره 14 درهم .. 14 درهم دول يا اخوانا كانوا يشتروا قبل الأزمة 70 رطل خبز .. مع الوقت حتى ده مبقاش موجود .. طب نعمل إيه؟ .. ناكل قطط وكلاب عادى .. بس حتى ده مكانش رخيص لإن ثمن الكلب وصل ل 5 دنانير .. القطط والكلاب خلصت؟ .. عادى .. ندخل على البنى آدمين بقى .. إقرأ معايا الرواية دى :

( وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتاً قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى فى الطرقات فأعدوا سَلَباً وخطاطيف فإذا مر بهم أحد شالوه فى أقرب وقت ثم ضربوه بالأخشاب وشَرّحوا لحمه وأكلوه )

الجوع ساعتها وصل الناس إنها تقتل بعضها يا جماعة عشان تعيش .. فى رواية أفظع من اللى فاتت رواها شخص إسمه ” الشريف أبو عبد الله محمد الجوانى ” قال فيها :

( حدثنى بعض نسائنا الصالحات قالت : كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها وفيها كالحفر فتقول : أنا ممن خطفنى أكلة الناس فى الشدة فأخذنى إنسان وكنت ذات جسم وسمن فأدخلنى بيتاً فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرة القتيل .. فأضجعنى على وجهى وربط فى يدى ورجلى سلباً إلى أوتاد حديد عريانة .. ثم شَرّح من أفخاذى وأنا أستغيث ولا أحد يجيبنى .. ثم أضرم الفحم وأسوى من لحمى وأكل أكلاً كثيراً ثم سكر حتى وقع على جنبيه لا يعرف أين هو .. فأخذت فى الحركة إلى أن تخلى أحد الأوتاد وأعان الله على الخلاص وخلصت وحللت الرباط وأخذت خروقاً من داره ولففت بها أفخاذى وزحفت إلى باب الدار وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى الناس فحملت إلى بيتى وعرفتهم بموضعه فمضوا إلى الوالى فكُبس )

إبن كثير ذكر فى البداية والنهاية رواية مرعبة توضح حال الناس وقتها قال فيها :

( وفيها كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف والميتات والكلاب فكان يباع الكلب بخمسة دنانير .. وماتت الفيلة فأُكلت ميتاتها وأُفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب .. ونزل الوزير يوماً عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأُخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها .. وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويدفن رؤوسهم وأطرافهم ويبيع لحومهم فقُتل وأُكل لحمه .. وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه فى ظاهر البلد لا يتجاسرون يدخلون لئلا يُخطف ويُنهب منهم .. وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهاراُ وإنما يدفنه ليلاً خفية لئلا يُنبش فيؤكل )

يا نهار أبيض .. إنتوا متخيلين الوضع كان عامل إزاى؟ .. الوزير بغلته إتسرقت وإتاكلت فمسكوا اللى سرقوها وصلبوهم فالناس كلتهم قبل ما النهار يطلع عليهم .. واحد تانى خدها تجارة فبقى يقتل الصبيان والنساء .. يدفن رؤوسهم وأطرافهم ويبيع لحومهم على إنها لحمة عادية فلما اتمسك إتقتل والناس أكلت لحمه .. واخدين بالكم من الكلام .. كابوس بمعنى الكلمة ..

ـــــ

أما عن حال الناس مع الفقر فكان كارثة تانية لوحده وكنت كتبتلكم بوست قبل كده عن السيدة اللى باعت عقدها اللى ثمنه ألف دينار مقابل شوال دقيق فلما الناس إكتشفت الشوال معاها تكالبوا عليه وكل واحد خد شوية ومفضلش معاها غير حفنة من الدقيق خبزت بيها قرصة وراحت على قصر المستنصر وقعدت تدعيله إستهزاءاً بيه وبعهده المجيد اللى وصلها إنها تشترى قرصة بألف دينار .. الخليفة المستنصر نفسه بعد ما أمراؤه بيعوه كل ممتلكاته عاش فى قصره على حصير مش معاه غير 3 من الخدم وإبنه ” أحمد ” بعد ما بعت بناته وأمه على بغداد وبعت 3 من أولاده الذكور لعكا وعسقلان .. وصل بيه الحال إنه مكانش لاقى ياكل وفى مرحلة من مراحل المجاعة كانت بتتصدق عليه واحدة من أغنياء البلد بطبق فتيت .. يعنى طبق فيه عيش متقطع وعليه لبن أو أى حاجة تانية ودى كانت الوجبة الوحيدة اللى بياكلها الخليفة يومياً لحد ما الست نفسها فلست ومبقاش معاها تأكل نفسها ..

طب والزراعة؟ .. معقول كل السنين دى منسوب النيل مبيزيدش؟

لأ طبعاً .. النيل رجع لطبيعته ما بين صعود ونزول .. المشكلة إن مكانش فى فلاحين عشان تزرع لدرجة إن العسكر الأتراك نزلوا يزرعوا بنفسهم عشان ياكلوا رغم إن الزراعة مكانتش إختصاصهم .. الناس ماتت واللى عاش منهم كان بيخاف يمشى فى الشارع مش يزرع .. حجم الضحايا كان مهول بسبب الجوع والوباء .. المؤرخ شهاب الدين النويرى قال فى كتابه ” نهاية الأرب فى فنون الأدب ” :

( وكثر الوباء بالقاهرة ومصر حتى إن الواحد كان يموت فى البيت فيموت فى بقية اليوم أو الليلة كل من بقى فيه )

يعنى واحد بس يموت فيموت وراه كل أهل البيت من شدة الوباء .. وتأكيداً على إن الأزمة كانت سياسية تماماً وإن النيل ملوش علاقة بالموضوع فالنويرى قال :

( ولم يكن هذا الغلاء عن نقص النيل .. وإنما كان لإختلاف الكلمة وحروب الأجناد وتغلب المتغلبين على الأعمال .. وكان النيل يزيد ويهبط فى كل سنة ولم يجد من يزرع الأراضى .. وانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكثيرة )

أما ابن تغرى بردى فاتكلم عن الموضوع ده برضه وقال :

( أقامت البلاد سبع سنين يطلع النيل فيها وينزل ولا يوجد من يزرع لموت الناس واختلاف الولاة والرعية .. فاستولى الخراب على كل البلاد ومات أهلها وانقطعت السبل براً وبحراً )

ـــــ

بإختصار ..

الشدة المستنصرية واحدة من أشد المجاعات اللى مرت على مصر والعالم فى العصور الوسطى .. كارثة حقيقية .. لكن حصرها تاريخياً فى نطاق الكارثة الطبيعية خطأ كبير وإلا كانت الدول القريبة من مصر ساعدتها على إنهاء الأزمة بسرعة .. المجاعة دى السبب الأساسى فيها كان إختلاف كلمة الجنود ووقوفهم قدام بعض .. سببها كمان تغول أم الخليفة وتدخلها فى كل شيء ومحاولتها التحكم فى كل ما يخص الدولة .. سببها نقص المياه وإنتشار الأوبئة .. سببها إهتراء الدولة وضعف مسئوليها وتبعيتهم للقوى المختلفة سواء أم الخليفة أو العسكر الأتراك أو العسكر السودان .. كلها عوامل أثرت فى اللى حصل ..

فاضل كده نعرف حاجتين :

1 – الأزمة دى إنتهت إزاى؟

2 – إيه هى صحة الروايات اللى إتكلمت عن الشدة المستنصرية؟

ده هيبقى فى الجزء الجاى والأخير إن شاء الله ..

ـــــ