بدأ الإنهيار من عند السيدة رصد أم الخليفة المستنصر .. تصرفاتها كانت المفتاح اللى فتح باب المجاعة على مصر .. الست دى كانت عاوزة تسيطر على كل شيء فى الدولة حتى بعد ما إبنها كبر وتسلم مقاليد السلطة رسمياً .. المهم عشان الست دى تحكم فعلياً كان لازم يبقى ليها ظهير عسكرى يدعمها .. وبما إنها كانت من بلاد النوبة فكان خيارها الأول هو شراء عدد كبير من العبيد السودان وبالفعل مع الوقت زاد عددهم ونفوذهم .. المؤرخ شهاب الدين النويرى قال عنهم :
( وشرعت فى شراء العبيد السودان واستكثرت منهم وجعلتهم طائفة لها فاشتد أمرهم إلى أن صار العبد منهم يحكم حكم الولاة )
المشكلة إن الموضوع موقفش لحد كده .. السيدة رصد مكفهاش إن جنودها يبقوا الأكثر عدداً أو الأعلى نفوذاً .. دى كانت عاوزة تقضى على أى قوة تانية فى الدولة ممكن تمثل عليها خطورة .. عشان كده كانت بتعرض على أى وزير يتولى الوزارة إنه يوقع بين الجنود الأتراك والجنود السودان وهى فى إعتقادها إن جنودها هم الأقوى والأكثر تجهيزاً فلما تحصل الفتنة بين الطرفين أكيد جنودها هيكسبوا المعركة وبالتالى تئول إليها السلطة منفردة بدون ما تخاف من أى قوة تانية على الساحة ..
بعض الوزراء رفضوا ينفذوا كلامها خوفاً من إنهيار الدولة لكن وزراء تانيين وافقوا على خطتها كان أولهم وزير إسمه ( أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلى ) اللى رفع أجور الجنود السودان دون الأتراك وفضل يوقع بين الطرفين لحد ما استحكم العداء بينهم .
ـــــ
فى سنة 454 هجرياً بدأت الكارثة .. جندى تركى شرب خمرة وسكر بسببها فطلع سيفه وقعد يهوش بيه مجموعة من الجنود السودان وكأنه هيقتلهم يعنى وده خلاهم يجتمعوا عليه ويقتلوه .. طبعاً الأخبار وصلت للأتراك اللى جمعوا بعضهم وراحوا للخليفة وقالوله :
( إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة وإن كان عن غير رضاك فلا نصبر عليه )
طبعاً المستنصر قالهم إنه ميعرفش أى حاجة عن الكلام ده وإنه طبعاً مش راضى عنه فكان كلامه بمثابة الإذن ليهم فى الإنتقام فخرجوا لقتالهم فى قرية إسمها ” كوم شريك ” قرب مركز كوم حمادة فى البحيرة دلوقت وهناك انتصر الأتراك وقتلوا من السودان قرابة الألف جندى رغم دعم السيدة رصد لهم بالمال والسلاح ..
ـــــ
الهزيمة أجبرت الجنود السودان على الخروج من القاهرة تماماً وبدأوا يتجمعوا فى منطقة إسمها ” شبرا دمنهور ” فى البحيرة وبخروجهم فضيت القاهرة للأتراك اللى لما لقوا نفسهم لوحدهم استطال أمرهم وبدأوا فى تهديد المستنصر نفسه .. 3 سنين بحالهم والأتراك مسيطرين على القاهرة والسودان بيتجمعوا فى البحيرة .. الطبيعى اللى كان مفروض يحصل خلال الفترة دى إن يا إما يحصل صلح شامل بين الطرفين فترجع الأمور لطبيعتها أو يحصل مواجهة عسكرية عشان التمرد ده ينتهى للأبد .. لأ .. اللى حصل عكس كده تماماً ..
الجنود السودان سيطروا على الوجه البحرى وخدوا خراج المنطقة دى لنفسهم وبالتالى نقصت السيولة فى الخزائن السلطانية .. خراج المنطقة دى بس كان يقدر ب 600 ألف دينار سنوياً .. فى نفس الوقت استفرد الأتراك بالمستنصر فى القاهرة وطالبوه بزيادة أرزاقهم .. طب منين والبلد سيولتها قلت والخزاين فضيت؟! .. مش قصتنا إحنا عاوزين فلوس .. بعد 3 سنين وتحديداً سنة 459 هجرياً كان وصل الجنود السودان فى البحيرة لقرابة الخمسين ألف وده عدد شافت السيدة رصد إنه كافى لمواجهة الأتراك فراسلت قادتهم وأغرتهم بقتال الأتراك وطردهم من القاهرة ووعدتهم بمزايا مهولة فى حالة إنتصارهم عليهم فوافقوا وتوجهوا للجيزة وهناك إتقابلوا مع الأتراك وعلى رأسهم قائدهم ( ناصر الدولة بن حمدان )
إنتصر الأتراك فى المعركة دى وأجبروا السودان على الهروب للصعيد .. هروبهم للصعيد تكلفته كانت أقسى من دخولهم للقاهرة لإنهم قطعوا مجرى النهر وأفسدوا مصادر الرى وده ساهم فى بوار كتير من الأراضى الزراعية وبالتالى زادت الأزمة الغذائية بهلاك المحاصيل وزادت الأزمة المالية بقلة الخراج .. عشان كده كان أهم أولويات الأتراك إنهم يهزموا السودان بشكل نهائى فبدأوا بالمجموعة اللى فى البحيرة والإسكندرية ونجحوا فى ده سنة 459 هـ وبعدها توجهوا لقتال المجموعة الأكبر اللى فى الصعيد وبالفعل قدروا يهزموهم سنة 460 هـ
ـــــ
وسط ده كله الأتراك مكانوش راحمين المستنصر بالله وكانوا دايماً بيطالبوه بزيادة أرزاقهم اللى كانت 28 ألف دينار شهرياً وزادت لحد ما بقت 400 ألف دينار شهرياً لحد ما فضيت الخزائن تماماً من الأموال وعندها أجبروا المستنصر إنه يبيع ممتلكاته عشان يدفعلهم .. المقريزى وصف الوضع ده وقال :
( فطغى الرجال وتجرؤوا حتى خرجوا من طلب الواجبات إلى المصادرة فاستنفدوا أموال الخليفة وأخلوا منها خزائنه وأحوجوه إلى بيع أغراضه )
من شدة تجبر الأتراك وقتها وصل بيهم الأمر إنهم مش بس أجبروا المستنصر على بيع ممتلكاته .. لأ .. دول وقفوا بنفسهم على عملية تقييم الأصول دى .. فكان لما ييجى المقيميين عشان يحددوا سعر الممتلكات كانوا بيخوفوهم فيضطروا إنهم يقيموها بأقل من قيمتها خوفاً على حياتهم .. ويا ريت الخفض كان بنسبة مقبولة .. دول كانوا بيقيموا ما قيمته ألف دينار بمائة وما دونها حسب وصف المقريزى .. يعنى بخسوا السعر بأكثر من 90 % من قيمته .. كل ده بيحصل والمستنصر مغلوب على أمره ومش عارف يعترض أو يقول لأ ..
ـــــ
بعد إنتصار الأتراك على السودان سنة 460 هجرياً أصيب ( ناصر الدولة بن حمدان ) بما يشبه جنون العظمة وامتد طغيانه بعد ما كان على الخليفة والشعب بس إلى أمراء الأتراك نفسهم وبدأ فى توزيع الأرزاق على الأمراء المقربين منه دون باقى الأمراء وعامة الجند للدرجة اللى خلتهم يشتكوا للوزير ( محمد بن الحسن اليازورى ) المعروف بإسم ” خطير المُلك ” وقالوله :
( كلما خرج من الخزانة مال أخذ ناصر الدولة أكثره وفرقه فى حاشيته ولا يصل إلينا منه إلا القليل )
فحرضهم الوزير عليه وشجعهم على قتله وبالفعل إقتنعوا بكلامه وعندها إنقسم الأتراك لقسمين .. قسم فيه ناصر الدولة ومعاه قائد تانى إسمه ( تاج الملوك شادى ) وقسم تانى فيه قائد تركى إسمه ( إلدكز ) ومعاه الوزير ” خطير الملك ” وهيكون معاهم الخليفة المستنصر بعد كده .. بالنسبة للوزير فبيتقتل بسرعة على يد تاج الملوك شادى اللى بيبعت لناصر الدولة عشان يدخل القاهرة .. وبالنسبة لإلدكز والخليفة فبيطلعوا على رأس جيش وبيواجهوا ناصر الدولة وبيهزموه فبيضطر إنه يخرج من القاهرة ويروح يتحصن فى البحيرة وبيصاهر قبيلة من عربانها إسمها بنى سِنْبِس ..
ناصر الدولة وهو فى البحيرة مبيلاقيش حل إلا مراسلة ( ألب أرسلان ) سلطان دولة السلاجقة عشان يدعوه لدخول مصر وده خلى المستنصر بالله يدعم خروج جيش من الأتراك الموالين ليه لقتال ناصر الدولة إنتقاماً منه لكن الجيش ده مكانش كتلة واحدة وخرج على 3 أجزاء فقدر ناصر الدولة إنه يهزمهم ويستولى على الوجه البحرى كله وقطع الخطبة فيه للمستنصر بالله وأقامها للخليفة العباسى ( القائم بأمر الله ) وده كان الأثر السياسى للهزيمة أما عن الأثر الإقتصادى فكان أصعب لإن ناصر الدولة منع المؤن والغلال من الوصول إلى القاهرة فمات الناس من الجوع حرفياً ..
وضع زى ده أجبر المستنصر وحلفاؤه الأتراك على الصلح مع ناصر الدولة بحيث يفرج عن شحنات المؤن عشان تدخل القاهرة مقابل حصة من المال تورد إليه بشكل شهرى بشرط بقاؤه فى الإسكندرية على أن يكون ( تاج الملوك شادى ) نائبه على مصر وتم الصلح على كده لفترة لحد ما حصل خلاف تانى بينهم بعد شهور بسبب عدم توريد المال كما هو متفق عليه وده رجع العلاقة لسابق وضعها تانى ..
ـــــ
فى سنة 464 هجرياً جمع ناصر الدولة حلفاؤه من عربان البحيرة وراح على القاهرة وهناك بعث رسول للمستنصر عشان يطالبه بالمال فلما دخل عليه الرسول لقاه قاعد على حصير وحواليه 3 خدم بس فلما بلغه الرسول بالرسالة قال له :
( ما يكفى ناصر الدولة أن أجلس فى مثل هذا البيت على هذه الحال؟ )
فبكى الرسول ورجع لناصر الدولة ووصفله الحال اللى لقى عليها المستنصر فرق قلبه عليه وقرر صرف إعانة شهرية ليه قدرها 100 دينار .. طبعاً 100 دينار مكانتش تعمل أى حاجة وقتها لإن الغلاء كان فاحش فى الأيام دى ..
فى رجب سنة 465 هجرياً إفتكر ناصر الدولة إنه سيطر على كل شيء وإنه بقى الحاكم الفعلى لمصر كلها وقلل حراسته لأقل حد ظناً منه إن مفيش حد هيجرؤ على معارضته بعد كده لكن على عكس توقعاته تآمر عليه إثنين من أمراء الأتراك الرافضين لحكمه وقتلوه هو وإخواته الإتنين وعدد كبير من أهل بيته وذريته للدرجة اللى متخليش حد يطالب بملكه من بعده ..
ـــــ
فى الجزئين اللى فاتوا حضراتكم عرفتوا واقع الدولة العبيدية قبل الشدة المستنصرية وعرفتوا حجم الترهل الإدارى اللى أصابها بالإضافة للأسباب الطبيعية اللى تمثلت فى نقصان منسوب نهر النيل بالإضافة للأوبئة اللى مرت على مصر قبل حدوث الشدة المستنصرية مباشرة .. والنهاردة عرفتوا حقيقة الصراع العسكرى خلال سنوات المجاعة وإنقسام السلطة بين أكتر من طائفة لحد ما وصلت ليد ناصر الدولة اللى تم قتله على يد أعداؤه الأتراك ..
بوفاة ناصر الدولة مبيلاقيش الخليفة المستنصر مفر من إستدعاء واحد من قادة الدولة العبيدية الأقوياء هو ( بدر الدين الجمالى ) اللى كان والى على دمشق وعكا وكتير من مدن الشام فى الوقت ده .. هنتكلم طبعاً عن بدر الدين الجمالى وهنعرف عمل إيه عشان يقضى على الأزمة ويعيد الأمن للقاهرة مرة تانية ويرجع للدولة العبيدية هيبتها تانى لكن قبل ده لازم نعرف إيه اللى الناس مرت بيه فى الكام سنة دول .. إحنا عرفنا الأوضاع الإدارية والعسكرية لكن حالة الناس كانت إيه؟
ده اللى هنعرفه فى الجزء الجاى إن شاء الله ..
ـــــ