الشدة المستنصرية من البداية إلى النهاية – ج 1

الشدة المستنصرية أو الشدة العظمى واحدة من أشهر المجاعات اللى حصلت فى العصور الوسطى عامة ومصر خاصة .. والمجاعات دى كانت علامة مميزة للعصور الوسطى عموماً يعنى مكانتش مرتبطة بدولة أو شعب أو عرق فما بالنا بمصر اللى هى دولة صحراوية قليلة الأمطار لا تملك إلا شريان مائى واحد هو نهر النيل .. إن شاء الله هبتدى معاكم من النهاردة سلسلة قصيرة هحكيلكم فيها عن كل ما يخص الشدة المستنصرية .. أسبابها .. ترتيب أحداثها .. وهل كانت حقيقية فعلاً ولا اللى إتقال عنها مجرد مبالغات ..

ـــــ

الدولة العبيدية اللى حكمت مصر فى زمن الشدة العظمى زيها زى أى دولة مر عليها فترات عز ورفاهية ومر عليها كمان فترات عصيبة فيها قحط وجوع .. السبب فى التذبذب ده إن الرخاء فى مصر كان مرتبط بشكل كبير بفيضان النيل .. لو منسوبه زاد فده معناه إزدهار زراعى ولو منسوبه نقص فده معناه أزمة غذائية محتملة فى الموسم الزراعى .. ده اللى فطن ليه حكام الدولة العبيدية وبناء عليه بدأوا فى شراء المحاصيل الزراعية فى مواسم الوفرة بما يوازى 100 ألف دينار وتخزينها ولما ينقص منسوب النيل تتفتح المخازن السلطانية وتباع المحاصيل فى الأسواق فتتعدل الكفة تانى وتنزل الأسعار والناس متحسش بالأزمة .. طبعاً دى سياسة معروفة ومجربة من قديم الأزل وأثرها كان فعال جداً فى الأزمات اللى بالشكل ده ..

الحقيقة عرض الأزمة بالشكل ده وحصر أسبابها بفيضان النيل عرض منقوص تماماً لإنه بيظهر الأزمة كإنها مجرد كارثة طبيعية وده عكس الواقع تماماً وإلا فالناس من حقها تسأل .. لو الأزمة فى الأكل والشرب ففين دور باقى المناطق اللى كانت تحت حكم العبيديين .. ليه مقدموش مساعدات تنقذ المصريين من الكارثة الطبيعية دى .. طبعاً نقص منسوب النيل كان عامل محفز لإشتعال الأزمة لكنه مكانش السبب الأبرز بالتأكيد فخلينا نجيب الموضوع من أوله خالص عشان نقدر نحدد الأسباب بدقة ..

ـــــ

( الحاكم بأمر الله ) سادس حكام الدولة العبيدية وأشهرهم مش بسبب إنجازاته لكن بسبب قراراته الغريبة اللى كانت بتتم بدون دراسة وبدون أسباب حتى .. موضوع الحاكم بأمر الله محتاج مقال خاص بيه ومش هينفع نتطرق ليه هنا عشان منخرجش بره الموضوع الأصلى للسلسلة لكن أنا هبتدى من عنده لإرتباط زمنه ببعض الشخصيات المؤثرة فى اللى هيحصل بعدين ..

قرارات الحاكم بأمر الله كانت بتتميز بالشطط الشديد بصراحة لكن كل ده كان بيعدى بسهولة لإن محدش كان يقدر يعترض وإلا راسه هتطير لحد ما وصل الأمر بيه إنه حاول يغير فى منظومة تداول السلطة وده كان مستهجن جداً عند الشيعة الإسماعيلية اللى كانوا بيؤمنوا بإنتقال الإمامة بشكل وراثى من الأب إلى الإبن إلى الحفيد وهكذا لكن الحاكم بأمر الله قرر تغيير النظام ده وعين فى ولاية العهد إبن عمه ( عبد الرحيم بن إلياس ) .. القرار ده كان سبب فى معاداة بعض الأمراء ليه وكان أول مسمار بيدق فى نعشه .. ومش بس كده .. خلافاته المستمرة مع أخته الكبيرة ( ست الملك ) وإتهامه لها بالتآمر ضده بل واتهامه لها بالزنا خلاها واحدة من ألد أعداؤه وخلاها تتآمر ضده وتكون السبب الأساسى فى قتله فوق هضبة المقطم على حسب أشهر الروايات اللى ذكرت إنه خرج فى ليلة وفاته للمقطم للتعبد واختفى هناك ولما دوروا عليه ملقوش غير عباءته مرمية على الأرض وهى غرقانة دم .. طب هو فين ؟ .. محدش يعرف .. عامة دى مش مشكلتنا لإن اللى يهمنا هو اللى حصل بعد وفاته ..

ـــــ

بعد وفاته قدرت ( ست الملك ) إنها تعيد الأمور لنصابها مرة تانية فقتلت كل اللى اشتركوا معاها فى قتل أخوها – حسب الروايات اللى رجحت ده يعنى – وكان من ضمنهم ( عبد الرحيم بن إلياس ) إبن عمها وولى العهد بعد أخوها ورجعت ولاية العهد مرة تانية لسياقها الطبيعى وتم سلطنة ( الظاهر لإعزاز دين الله ) إبن الحاكم بأمر الله ..

الظاهر بقى كان عكس أبوه تماماً .. قراراته كان فيها بعض العقل والتسامح خاصة بعد ما أبطل كتير من قرارات أبوه .. تولى السلطنة فى أواخر العشرينات من عمره تحت وصاية عمته لحد ما بلغ سن الرشد والحقيقة عمته كان ليها دور كبير فى الحفاظ على ملكه بعد ما قدرت بهيبتها إنها تجبر الجميع على الإنصياع ليه .. عامة اللى يهمنا فى عهد الظاهر حاجتين :

1 – تعيينه ل ( على بن أحمد الجرجرائى ) فى منصب الوزارة
2 – شراءه للجارية ( رصد ) وإنجابه منها

ـــــ

( على بن أحمد الجرجرائى (

أصله من العراق .. تحديداً من بلد إسمها جرجرايا موجودة بين بغداد وواسط قرب نهر دجلة .. فى بداية حياته سافر على مصر واشتغل فى بعض الوظائف الإدارية المرتبطة بقصر الحاكم بأمر الله لحد ما وصل لمنصب ” كاتب قائد القواد ” .. يعنى مساعد لرئيس الشرطة .. فى الفترة دى وصلت للحاكم بأمر الله إتهامات باطلة بخصوص الجرجرائى بتقول إنه متهم بالخيانة وكما هى عادة الحاكم بأمر الله المتسرع باستمرار أمر بقطع إيديه الإتنين من المرافق وبالفعل تم تنفيذ الحكم ولكن بعد فترة ندم الحاكم على قراره وعين الجرجرائى فى منصب مهم جداً هو صاحب ديوان النفقات .. يعنى وزير المالية ..

بعد وفاة الحاكم وسلطنة إبنه الظاهر نجح الجرجرائى فى الترقى لحد ما بقى مدبر أعمال ورئيس ديوان السيدة ( ست الملك ) عمة الخليفة وبعد وفاتها وثق فيه الظاهر وعينه فى منصب الوزارة وده كان ثانى أهم منصب فى الدولة بعد الخليفة مباشرة ..

ـــــ

( السيدة رصد )

رصد كانت جارية نوبية عند ( أبى سعيد بن هارون التسترى ) وده كان تاجر يهودى مقرب للخليفة .. مقرب لدرجة إنه خلاه يتولى إدارة بيت المال .. فى مرة من المرات شاف الخليفة الظاهر الجارية النوبية اللى إسمها رصد فعجبته وكانت ملامحها جميلة فقرر إنه يشتريها من التاجر اليهودى ويضمها لحريم قصره .. بعد فترة بينجب منها ولد سماه ( مُعد ) وبحكم النظام الإسماعيلى بقى الطفل ده هو ولى عهده من بعده ..

بعد سبع سنين بالظبط بيتوفى الخليفة الظاهر وعمره 31 سنة بس وقيل إن سبب وفاته هو الطاعون .. توفى الخليفة صغير فى السن ومسابش بعده غير إبنه الصغير ( مُعد ) وده مكانش عائق أبداً لتنصيبه سلطان على الدولة ولكن تحت وصاية والدته السيدة رصد ..

الطفل ده هو ( المستنصر بالله مُعد بن الظاهر )

ـــــ

لحد هنا والدنيا تمام .. الدولة قوية .. غنية .. حدودها بتتوسع يوم بعد يوم .. على الوصاية السيدة رصد وعلى الوزارة الوزير القوى أبو القاسم الجرجائى .. أومال إيه اللى حصل ؟ .. المشاكل بدأت إمتى ؟

بدأت المشاكل مع رغبة أم الخليفة فى الإستئثار بشئون الحكم .. من وجهة نظرها إبنها لسه طفل ولو مفتحتش عنيها وارد إن رجال الدولة يستغلوا ضعفه وينقلبوا عليه أو على الأقل يسرقوه .. عشان كده كان لازم تحاوطه بأهل الثقة لا أهل الكفاءة فبدأت الخلافات بينها وبين الوزير الجرجرائى رغم إن الراجل كان مشهود له بالكفاءة والقدرة الإدارية العالية بل إنه كان من أسباب توطيد حكم السلطان الصغير بعد ما أجزل العطاء للعسكر عشان يضمن ولاءهم ليه .. الأسباب دى يمكن هى اللى خلت حدة الخلافات بين الطرفين متزيدش عن الحد المقبول ولكن بعد 9 سنين بيتوفى الوزير وبوفاته بتبدأ المشاكل الفعلية ..

ـــــ

القصة بتبدأ برغبة السيدة رصد فى ترقية ( أبى سعيد التسترى ) التاجر اليهودى اللى كان مالكها زمان لكن ده مكانش متاح فى حياة الوزير الجرجائى فلما مات تم تعيين وزير مكانه إسمه ( أبو منصور الفلاحى ) وعندها جت الفرصة لأم الخليفة فرفعت قدر التاجر اليهودى وخلته رئيس ديوانها وإديتله صلاحيات واسعة تخطت صلاحيات الوزير نفسه .. المقريزى لما حب يوصف الوضع ده قال :

( فلما مات الجرجرائى وتولى الفلاحى انبسطت كلمة أبى سعيد فى الدولة بحيث لم يبق للفلاحى معه فى الوزارة أمر ولا نهى سوى الإسم فقط وبعض التنفيذ لا غير )

فى نفس الفترة حصل بعض الشغب من ” بنى قرة ” عرب البحيرة .. حاجة زى تمرد بس على صغير كده .. المهم إن الوزير الفلاحى قدر يسيطر على الوضع وقضى على تمردهم وده طبعاً ضد رغبة رئيس الديوان اللى بينافسه على السلطة .. حاول رئيس الديوان يسيطر على الجيش فاستمال فرع الجنود البربر وزود أعطياتهم ونقص من أعطيات الجنود الأتراك اللى كانوا موالين للوزير فانقسم الجيش وحصلت بينهم مناوشات مات فيها عدد كبير من الجنود ..

فى نفس الوقت مات قائد الجنود الأتراك فتم إتهام أبو سعيد رئيس الديوان بقتله ورغم إن ده مكانش عليه دليل قوى إلا إن الجنود الأتراك مستنوش لإنهم كانوا غضبانين عليه بسبب محاباته للبربر فقام ثلاثة منهم تربصوا بيه وقتلوه والحقيقة قتلوه قتلة بشعة جداً .. لما تقرأ وصف مقتله جسمك يقشعر والله .. إقرأ معايا :

( وقَطّع الأتراك أبا سعيد قطعاً .. وتناولت الأيدى أعضاءه فتمزقت واشترى أهله ما قدروا على تحصيله من جثته بمال .. وجمع الأتراك ما قدروا عليه من أعضائه ورِمّته وحرقوا ذلك بالنار وألقوا عليه من التراب ما صار به تلاً مرتفعاً .. وضم أهله ما وصل إليهم منه فى تابوت وأسدلوا عليه سِتراً وتركوه فى بيت مُؤّزر بالستور وأوقدوا الشموع وأقاموا عزاءه فتعلقت من بعض الشموع شرارة فى الستور التى هناك ومضت فيها فاحترق التابوت بما فيه )

طبعاً أم الخليفة معدتش الموضوع كده وفضلت تتآمر عليه لحد ما عزلته من الوزارة واعتقلته .. بعدها بفترة قصيرة أمرت بقتله فخرجه الجنود من الحبس وراحوا بيه لمكان إعدامه وبدأوا يحفروا قبره قدامه .. وهما بيحفروا إكتشفوا رأس إنسان وسط التراب فرفعوها وسألوا عنها الوزير الفلاحى فقالهم :

( هذا رأس ابن الأنبارى .. وأنا قتلته ودفن فى هذا الموضع )

ـــــ

ده كان الوضع وقتها فى الدولة العبيدية .. خليفة شاب لا يملك الخبرة الكافية للإدارة .. أم خليفة مسيطرة على الوضع وموزعة رجالتها على المناصب المهمة فى الدولة .. جيش منقسم وعناصره بتحقد على بعض بسبب إختلال ميزان العدالة بينهم ..

دى أول القصيدة لا أكثر ..

ـــــ