الحاجب المنصور .. ما له وما عليه ( جـ 5 )

الحاجب المنصور .. ما له وما عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الخامس :
ـــــــــــــــــــــــــ

زى ما قلنا فى الجزء اللى فات فأهداف محمد بن أبى عامر وغالب الناصرى تلاقت فى القضاء على الحاجب المصحفى .. بعد إنتهاء الغزوة المشتركة اللى قاموا بيها رجع المنصور لقصر قرطبة وإجتمع بالخليفة هشام ووالدته صبح البشكنجية وعرفهم بحجم الغنائم اللى هتدخل خزينة الدولة .. إنتصار كبير زغلل عين الخليفة الصغير ووالدته .. الحاجب المنصور بكده طلباته أوامر واللى شايفه يتنفذ فوراً طالما كان فى صالح بقاء هشام على كرسى الخلافة ..
المنصور مكانش عنده إلا طلب واحد .. هو إقالة ( محمد بن جعفر ) إبن الحاجب المصحفى من ولاية قرطبة .. الموافقة طبعاً كانت جاهزة وخلال دقايق كان أمر العزل فى إيد المنصور وبيتحرك بيه لمقر محمد بن جعفر عشان ينزله بنفسه من مكانه ويطرده ويقعد مكانه .. منصب جديد ضمن جملة المناصب اللى تولاها المنصور بن أبى عامر ..

ـــــ

قرطبة فى الوقت ده كان فيها مشاكل كتير فعلاً .. محمد بن جعفر مكانش والى كفء والمدينة رغم إنها كانت عاصمة الدولة إلا إن الأمن فيها مكانش مستتب وكان دايماً أهلها عايشين فى رعب من السرقات اللى كانت بتحصل فيها فجه المنصور وظبط أمور المدينة ودعم شرطتها وخد أهلها بالحزم والقوة وطارد مجرميها وأرسى قواعد الأمن فيها .. بكل أمانة المنصور رغم كل ما يقال عنه إلا إن مفيش مؤرخ واحد شكك فى قدراته الإدارية .. الراجل لما كان بيمسك أى وظيفة كان بيأديها على أكمل وجه .. إبن عذارى المراكشى لما وصف فترة ولاية المنصور لقرطبة قال :

( فضبط محمد المدينة ضبطاً أنسى أهل الحضرة ” قرطبة ” من سلف من أفراد الكُفَاة وأولى السياسة .. وقد كانوا قبله فى بلاء عظيم يتحارسون الليل كله ويكابدون من روعات طُرَّاقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو فكشف الله ذلك عنهم بمحمد بن أبى عامر وكفايته وتنزهه عما كان ينسب لابن جعفر .. فسد باب الشفاعات وقمع أهل الفسق والزعارات ” المجرمين ” حتى ارتفع البأس وأمن الناس )

ـــــ

قرار زى ده خلى الحاجب المصحفى يتأكد من نوايا المنصور .. حاول تحط نفسك مكانه وتفكر زى ما كان بيفكر وقتها .. المنصور عاوز يلغى وجودى نهائياً وعنده الإمكانية لده لإن الخليفة ووالدته فى جيبه فى حين إن رجالتى اللى فى القصر أو فى مناصب القيادة بيتعزلوا واحد ورا التانى .. يبقى أنا لو عاوز أحافظ على اللى باقى من سلطاتى لازم أدور على حد يقف معايا وفى الظروف دى مفيش قدامى غير ( غالب الناصرى ) رغم العداوة اللى بينى وبينه ..
بعد تفكير عميق ملقاش الحاجب المصحفى قدامه غير إنه يناسب غالب الناصرى فطلب إيد بنته أسماء لإبنه محمد .. لو تم الزواج ده كان هيبقى للمصحفى ظهر قوى يستند عليه جوه الدولة وكان المنصور هيفكر ألف مرة قبل ما يحاول إنه يقضى عليه .. طبعاً كان فى تحالف بين غالب وبين المنصور ولكن فى السياسة مفيش عهود ومواثيق .. لو غالب شاف مصلحته فى إتمام الزواج ده هينسى كل اللى إتفقوا عليه فى ثوانى وعندها خريطة النفوذ هتتشكل من أول وجديد ..

أخبار زى دى مينفعش تستخبى وطبعاً وصلت للمنصور فانتفض وخاف إن المصاهرة دى تتم فبعت رسالة لغالب الناصرى طلب منه فيها إنه ميوافقش على الزواج وطلب أسماء لنفسه .. غالب الناصرى قلبها فى دماغه وشاف إن المستقبل للمنصور وإن نجم المصحفى إلى زوال فوافق طبعاً وبعت رسالة على طول للحاجب المصحفى يبلغه برفض طلبه .. أول ما الحاجب المصحفى قرأ الرسالة إتأكد إن ملكه خلاص إنتهى وإن الجاى شكله هيبقى صعب جداً عليه ..

ـــــ

توقع المصحفى كان فى محله وتحقيقه متأخرش كتير .. المنصور خرج فى غزوة تالتة مع صهره غالب الناصرى وكالمعتاد نجحوا فيها ورجعوا على قرطبة بالسبى والغنائم فارتفعت أسهمهم جداً عند الخليفة وعامة الناس .. وكالمعتاد بعد كل غزوة .. كل واحد فيهم كان له مكافأة .. مكافأة المنصور كانت ترقيته لمنصب ( ذى الوزارتين ) بالإضافة لرفع مرتبه ل 80 دينار فى الشهر وده كان نفس راتب الحاجب المصحفى اللى هو أعلى مرتب فى الدولة .. أما مكافأة غالب الناصرى فكانت رفعه لدرجة الحجابة بالمشاركة مع الحاجب المصحفى وده فيه دلالة على الإنتقاص منه .. معنى إن يكون ليك شريك فى مهام منصبك فده ملوش غير معنى واحد .. إنك غير كفء للإدارة وعزلك من منصبك مسألة وقت ..

بعد حوالى 6 شهور حصل اللى توقعه الحاجب المصحفى .. الخليفة أمر بعزله من منصب الحجابة .. ومش بس كده .. ده أمر بالقبض عليه هو وقرايبه وباقى عيلته ومصادرة أموالهم .. إنتقام كامل وشامل من المصحفى وقرايبه بإيعاز من المنصور طبعاً .. الروايات ذكرت إن المنصور عمل بجعفر المصحفى وأهله عمايل سودة .. هجم على بيوتهم وإنتهك حرماتهم وإعتقل رجالتهم وصادر أموالهم وشردهم فى ولايات الأندلس وعاش كتير منهم فى الجبال مش لاقيين اللى ياكلوه وده بخلاف إنه قتل هشام إبن أخو جعفر المصحفى لإنه كان أكتر واحد بيكرهه ..

ـــــ

الحاجب المصحفى إتحبس تقريباً 5 سنين ما بين سجن قرطبة وما بين الإقامة الجبرية فى بيته .. يتحبس شوية ويخرج على بيته ميخرجش منه وشوية يتشد من بيته عشان يقعد فى الحبس تانى .. كل ده والناس بتتفرج عليه .. إذلال ممنهج ليه على يد المنصور .. عاش السنين دى فى ذل وفقر وإحتياج ولكنه رغم كل ده كان مازال حريص على الدنيا فكان دايماً بيستعطف المنصور بأبيات شعر كلها إسترحام وخنوع عشان يعفو عنه ورغم كده عمر المنصور ما وافق على طلب من طلباته .. من شدة ذله وهوانه على الناس وصل بيه الأمر إنه يطلب من المنصور إنه يشتغل عنده مربى لأبناءه .. يعنى يدرسلهم ويدير شئونهم ويشوف إحتياجاتهم وكده فلما وصل طلبه للمنصور قال :

( أراد أن يستجهلنى ويُسقطنى عند الناس وقد عهدوا منى ببابه مؤملاً ثم يرونه اليوم بدهليزى معلماً )

يعنى عاوز يحرجه قدام الناس ويبين إنه مش عارف يربى عياله فطبعاً رد فعله عليه كان عنيف فإبتدى يهينه قدام عامة الناس فكان بيستدعيه من السجن للمثول للتحقيق فى القصر فكان الحرس بيخرجوه من السجن وإيده ورجله مقيدين بالحديد وبعد ما ينتهى التحقيق يرجعوه تانى للسجن بكل خشونة وعنف رغم إنه فى الوقت ده كان شيخ عجوز بيمشى بالعافية ..

ـــــ

الحاجب المصحفى كان متوقع إنه هيموت فى حبسه فجه فى مرة بعد أحد التحقيقات معاه وودع أهله وولاده وقالهم :

( هذا وقت إجابة الدعوة وأنا أرتقبها منذ أربعين سنة )

فسألوه عن السبب فقال :

( رُفع علىَّ فلان أيام الناصر وسعى به إلى فأشرفت على أعماله فآل أمره إلى ضربه وتغير نعمته وإطالة حبسه .. فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ أتانى آت فقال لى : أطلق فلاناً فقد أجيبت دعوته فيك ولهذا أمر أنت لا بد لاقيه .. فانتبهت مذعوراً وأحضرت الرجل وسألته إحلالى فامتنع علىَّ فاستحلفته على إعلامى بما خصنى به من الدعاء فقال : نعم .. دعوت الله أن يميتك فى أضيق السجون كما أعمرتنيه حقبة .. فعلمت أنه قد وجبت دعوته .. وندمت حيث لا ينفع الندم وأطلقت الرجل ولم أزل أرتقب ذلك فى السجن )

بعد أيام من الحوار ده مات جعفر بن عثمان المصحفى فى السجن .. ناس قالت إنه مات مخنوق وناس قالت إنه مات مسموم والله أعلى وأعلم .. المنصور مكتفاش بكل اللى فات ده ولكن إستمر فى إهانة المصحفى حتى بعد وفاته .. محمد بن إسماعيل كاتب المنصور قال :

( سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده والحضور على إنزاله فى ملحده فنظرت إليه ولا أثر فيه وليس عليه شيء يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين ستره به .. فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله – والله – على فردة باب إقتلع من ناحية الدار وأنا أعتبر من تصرف الأقدار .. وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا إلا إمام المسجد المستدعى للصلاة وما تجاسر أحد على النظر إليه )

جعفر المصحفى حاجب الأندلس لسنين طويلة مات مذلول مش لاقى لقمة ياكلها لدرجة إنه كان بيستعطف المنصور عشان يشتغل خادم فى بيته يراقب عياله ويتابعهم .. مات على إيد المنصور اللى كان هو أول واحد إستقبله فى قصر الخلافة ودعمه ورقاه وخلاه واحد من رجالته .. لكن سبحان الله .. يمكن ربنا سلط عليه المنصور بعد ما قتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر بسبب حرصه على إستدامه ملكه ..

سبحان المعز المذل وتلك الأيام نداولها بين الناس ..

ـــــ

المنصور إبن أبى عامر .. الراجل اللى دخل قصر الخلافة وحيد .. ضعيف .. بلا فئة تنصره .. قدر إنه يكسب ود وثقة كل اللى حواليه لحد ما تناوب على أغلب المناصب المهمة فيه .. أثبت كفاءة إدارية وخبرة فى إدارة الأمور كانت دايماً بتحطه فى موضع الصدارة .. كسب كل الأطراف فى صفه وبعدها بدأ فى الإنقلاب عليهم كلهم وإبتدى يزيح من طريقه كل اللى ممكن يشكلوا عليه خطر .. إبن خلدون لما حب يوصف تعامل محمد ابن أبى عامر مع خصومه قال :

( ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه فمال عليهم وحطهم عن مراتبهم وقتل بعضهم ببعض .. كل ذلك عن أمر هشام وتوقيعه حتى استأصل شأفتهم ومزق جموعهم )

بدأ بالصقالبة .. وبعدها إنقلب على الحاجب المصحفى ..

ومش هيكتفى بكده ..

الدور على هشام المؤيد بالله ..

ـــــ

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى‎ : https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور‎ :https://itunes.apple.com/app/id1432249734

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ