فى أواخر عام 675 هجرياً وتحديداً بعد إنتهاء معركة البستان فى الأناضول وجلوس الملك الظاهر على كرسى العرش لبلاد سلاجقة الروم بدا له أن الدنيا قد أقبلت عليه بالفعل وأن أيامه القادمة هى أيام سعد .. الملك الظاهر فى تلك الأثناء كان قد هزم وأخضع جميع أعداؤه .. الصليبيين فى الشمال .. ممالك النوبة فى الجنوب .. المغول فى الشرق وإن لم يستأصل شأفتهم بالكامل .. حتى ملوك الفرنجة لم يجرؤوا على تسيير حملة صليبيية واحدة فى
عهده رغم ما ما عاناه إخوانهم فى الشام على يديه .. لو أنك مكان بيبرس حينها ماذا كنت ستظن؟ .. أنت أقوى ملك فى محيطك الجغرافى ولا ينافسك فى القوة إلا المغول وهؤلاء أنت خبرتهم بالفعل وهزمتهم أكثر من مرة وإستئصالهم بالنسبة إليك مجرد وقت ..
أنت سلطان العالم ولا ريب ..
ـــــ
صفد .. قبل عدة سنوات من معركة البستان ..
بينما كان بيبرس واقفاً بين أمراؤه إذا به يلمح أحد المنجمين – وكان مولعاً بالتنجيم – فطلبه فأتى به العسكر فلما جاءه طلب منه أن يحدثه بما يرى فإذا بالمنجم يُخبره أن هناك ملكاً سيموت سنة ست وسبعين فلم يأخذ الحضور حديثه على محمل الجد إلا بيبرس الذى كان يعتقد فيما يقوله المنجمون فحجزت كلماته مكانها فى ثنايا عقله ولم تخرج مطلقاً ..
ـــــ
دمشق .. أوائل محرم عام 676 هجرياً ..
يجلس الملك الظاهر وحوله عدد من أمراؤه وبينهم واحد من أولاد الملوك الأيوبية هو ( الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن المعظم عيسى بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب ) وبينما الحديث قائماً فى المجلس قال بيبرس إنه خائف من تورطه فى بلاد الروم وأنه يخشى الندم على ذلك لاحقاً وكان ذلك خلاف طبيعته تماماً فمن يعرفه جيداً يعلم أنه لم يتحدث بتلك الطريقة أبداً لا سراً ولا جهراً فكيف يقولها فى مجلس يضم أقرب أمراؤه !!
بالطبع استرعى حديثه إهتمام الحضور ولكنهم كتموه فى أنفسهم إلا الملك القاهر الذى عاتبه علناً على حديثه وقَبّح ما قاله ورأى أن كلامه دليلاً على فتور همته فترك ذلك أثراً سيئاً فى نفس بيبرس خاصة أن الملك القاهر أثبت كفاءة عالية فى القتال أثناء معركة البستان وبلاؤه فى المعركة كان محط إعجاب الجند والأمراء على حد سواء وكان بيبرس عنده حسد شديد لمن يوصف بالشجاعة فزاد حسده وحقده عليه بعد أن عاتبه أمام الأمراء والحاشية علانية .. وبينما تتضارب تلك المشاعر فى نفس بيبرس إذا بكلمات المنجم تطرق باب عقله .. هناك ملكاً سيموت سنة ست وسبعين .. وبما أن هناك ملكاً سيموت فى ذلك العام فلما لا يكون الملك القاهر وبهذا يضرب بيبرس عصفورين بحجر واحد .. الأول بصرف تأويل المنجم عن نفسه والثانى هو عقابه على تحديه أمام حاشيته ..
ـــــ
فى تلك الجلسه أمر بيبرس حاشيته بتجهيز إحتفال ضخم بمناسبة إنتصار المماليك على المغول فتزينت دمشق وأقيم الإحتفال فى الرابع عشر من محرم فى القصر الأبلق وجلس وحوله الأمراء والحاشية يشربون القِمِز – وهو نبيذ يُعمل من لبن الخيل – وكان قد جهز سماً فى ورقة وأخفاها ليدسه فى شراب الملك القاهر وفى هذه الواقعة يروى أنه كان لديه ثلاثة كئوس لا يشرب منها أحد إلا هو ومن يكرمه من الضيوف فلما جائت الكئوس أمسك واحداً بيده ووضع فيه السم ثم ناوله للملك القاهر وشرب هو من كأس أخر ..
بعد دقائق ظهرت آثار السم على الملك القاهر وبدء يشعر بالإعياء وآلام فى معدته فاستأذن للإنصراف فلما انصرف خرج بيبرس إلى الخلاء ثم عاد إلى مجلس الشراب فأخطأ الساقى وأعطاه نفس الكأس التى شرب منها الملك القاهر وكان لم يزل به بقية من السم فشرب بيبرس وأكمل ليلته على هذا وفى اليوم التالى بدأ يشعر بالتوعك وفتور الجسد فشكا للأمير ( شمس الدين سنقر الألفى ) فأشار عليه بالقيء فلم يستطع ذلك وأمضى يوم الجمعة كاملاً لا يشعر بالراحة والألم يزداد عليه ..
فى صباح السبت اشتكى من حرارة فى بطنه فصنع له بعض خواصه دواء لم ينجح معه بل إنه زاد من ألمه فلما جاءه الأطباء لاموهم على هذا الدواء وأجمعوا على إستعمال دواء مسهل فلما لم يأت بنتيجه فزادوا عليه دواء آخر سبب له إسهالاً شديداً فتضاعفت حُمّاه وضعفت قواه بسبب نقص السوائل فى جسده وعندها تأكد الأطباء أن ما أصابه هو سم قد شربه فأصاب كبده وحاولوا علاجه إلا أنهم فشلوا فى ذلك وبدأت حالته تتدهور يوماً بعد الآخر حتى توفى بعد صلاة الظهر يوم الثامن والعشرين من محرم عام 676 هجرياً ..
بعد وفاته إتفق الأمراء على إخفاء الخبر حتى لا ينفرط عقد الدولة ومنعوا عنه الزيارة حتى كان آخر الليل فحملوه وغسلوه وكفنوه ووضعوه فى تابوب لحين الإستقرار على مكان دفنه ثم أرسلوا رسالة إلى ابنه الملك السعيد فى القاهرة ليعلموه بالأمر وكان الملك الظاهر قد أوصى بدفنه على قارعة الطريق المؤدى إلى مدينة ” داريا ” إلا أن الملك السعيد رأى أن يدفن داخل القلعة ولأجل ذلك اشترى داراً له بداخل القلعة ودفع مقابلها ثمانية وأربعين ألف درهم وأمر أن تغير معالمها ويبنى عليها مدرسة للشافعية والحنفية فعادت الرسل إلى دمشق وأعلموا نائب السلطنة فيها بجواب الملك السعيد فأمر بتجهيز الدار ثم استخرجوا جثمان الملك الظاهر ونقلوه إليها ليلة الجمعة خامس رجب عام 676 هجرياً وكانوا قد دفنوه فى بيت من بيوت البحرية مؤقتاً ..
ـــــ
امتد حكم الملك الظاهر لدولة المماليك أكثر من سبعة عشر عاماً أسس فيها دولة مترامية الأطراف وكان قد تسلم حكم البلاد فى فترة صعبة بسبب تمركز الأعداء على حدودها من كل الإتجاهات تقريباً فنجح فى كسر شوكتهم ووسع حدود دولته وأعلى كلمة الإسلام وجاهد حق الجهاد بنفسه وماله وأدار الدولة بسياسة صارمة أراها كانت ضرورية للسيطرة على المماليك الذين رامت نفوسهم إلى السلطة وعانت البلاد بسبب طموحهم المتزايد من الإضطرابات المستمرة وافتقرت إلى الإستقرار المطلوب لدفعها للأمام ..
وأنا هنا لا أعفى الظاهر بيبرس من تلك الإضطرابات بل إنه كان شريكاً فيها ووصل إلى كرسى السلطنة بسببها ولكن العبرة أنه كان أول من استطاع السيطرة على تلك الطموحات وحد من أحلام الكثيرين فى الإنقلاب عليه وفرض شخصيته على الجميع حتى لم يكد يستطع أى من ممالكيه أن يعصى له أمراً من فرط هيبته فى نفوسهم .. ولهذا فأنا أرى أن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس هو المؤسس الحقيقى لدولة المماليك إذ أنها كانت قبله دولة فى بداية عهدها تكافح للحفاظ على حدودها بسبب الأخطار الخارجية وتعانى إضطرابات داخلية وأطماع فى السلطة تأتى على أى جهود لجمع الشتات وتوحيد الكلمة حتى ملكها الملك الظاهر فأقام الدولة وعَمّرها وحدثها ووحد الجهود وفتح البلدان وأخضع الأعداء وكسر شوكتهم ووصلت كلمة لا إله إلا الله فى عهده لأصقاع بعيدة فى زمن قياسى بمقاييس زمانه ويكفيك فقط النظر إلى لقبه الرسمى الكامل لنعلم أى عز وصله الظاهر بيبرس فى حياته ..
( مولانا السلطان الأجل العالم العادل المؤيد المنصور .. ركن الدنيا والدين .. سلطان الإسلام والمسلمين .. سيد الملوك والسلاطين .. محيى العدل فى العالمين .. قاتل الكفرة والمشركين .. قاهر الخوارج والمتمردين .. سلطان بلاد الله .. حافظ عباد الله .. وارث الملك .. سلطان العرب والعجم والترك .. اسكندرالزمان .. صاحب القرآن .. ملك البحرين .. صاحب القبلتين .. خادم الحرمين الشريفين .. الآمر ببيعة الخليفتين .. صلاح الجمهور .. صاحب البلاد والأقاليم والثغور .. فاتح الأمصار .. مبيد التتار .. ناصر الشريعة المحمدية .. رافع علم الملة الإسلامية .. مقتلع القلاع من الكافرين .. القائم بفرض الجهاد فى العالمين .. أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين )
ـــــ
وقد وصفه أبو المحاسن ابن تغرى بردى فقال فيه :
( وكان الملك الظاهر رحمه الله ملكاً شجاعاً مقداماً غازياً مجاهداً مرابطاً خليقاً بالملك خفيف الوطأة سريع الحركة يباشر الحروب بنفسه )
وقال فيه أيضاً :
( ولما ملك الظاهر بيبرس الديار المصرية وتم أمره واستفحل أخذ فى الجهاد وفتح البلاد من يد العدو فافتتح غالب بلاد الساحل بالبلاد الشامية ومَهّد الممالك وطالت أيامه وحسنت وهو الذى استجد بمصر القضاة الأربعة )
أما ابن كثير فقال فيه :
( وقد كان الملك الظاهر شهماً .. شجاعاً .. عالى الهمة .. بعيد الغور .. مقداماً .. جسوراً .. معتنياً بأمر السلطنة .. يشفق على الإسلام .. متحلياً بالملك .. له قصد صالح فى نصرة الإسلام وأهله )
وقال أيضاً :
( ثم دخل مصر والعساكر فى خدمته فدخل قلعة الجبل وجلس على كرسيها فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل .. وكان شهماً شجاعاً أقامه الله للناس لشدة إحتياجهم إليه فى هذا الوقت الشديد والأمر العسير )
أما أبو الفدا فقال :
( وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً ملك الديار المصرية والشام وأرسل جيشاً فاستولوا على النوبة وفتح الفتوحات الجليلة مثل صفد وحصن الأكراد وأنطاكية وغيرها )
على أن أفضل وأوقع ما قيل فى الملك الظاهر هو ما ذكره الإمام الذهبى فى تاريخه المسمى تاريخ الإسلام حين قال :
( وكان غازياً .. مجاهداً .. مرابطاً .. خليقاً للملك لولا ما كان فيه من الظلم .. والله يرحمه ويغفر له ويسامحه فإن له أياماً بيضاء فى الإسلام .. ومواقف مشهودة وفتوحات معدودة )
ـــــ