إسبانيا قبل وصول المسلمين عاشت أكتر من 200 سنة تحت حكم مملكة القوط الغربيين .. فترة كانت كلها ظلم وفجور وطبقية وظروف معيشية مأساوية حسب وصف المستشرق الإنجليزى ( ستانلى لين بول – Stanley Lane-Poole ) فى كتابه ( قصة العرب فى إسبانيا ) .. الأمراء القوط إرتكبوا ذنوب ومعاصى موصلهاش حتى أعتى أمراء الرومان اللى كانوا بيحكموا قبلهم ومن شدة فجورهم كانوا بيبتكروا أنواع جديدة من التوبة لكل ذنب جديد بيرتكبوه ..
الشعب وقتها كان مقسم ل 3 طبقات .. طبقة الأمراء والطبقة الوسطى وطبقة العبيد .. الأمراء مهمتهم الرئيسية كانت جمع الأموال وإرتكاب الرذائل والتوبة منها وبس .. الطبقة الوسطى كانت بتمثل الموظفين الإداريين ودول كانوا عايشين فى فقر ومستحيل يحلموا بالإنضمام للطبقة الأعلى منهم .. طبقة العبيد بقى كانت ظروفهم أصعب بكتير .. كانوا بيعيشوا حياتهم كلها مرتبطين بخدمة صاحب الأرض اللى إتولدوا فيها ولو الأرض إتباعت بيتباعوا هما كمان معاها .. ولو حد فيهم فكر فى الجواز ومكانش متاح زوجة ليه فى المزرعة اللى بيشتغل فيها كان بيتجوز من مزرعة تانية ولكن بشرطين .. أولاً موافقة أسيادهم .. ثانياً قسمة ذرياتهم بعد كده بين المزرعتين فتعيش الذرية مقسومة بين الأبوين طول عمرهم لحد ما يموتوا .. ده كان حال إسبانيا قبل وصول المسلمين ليها ..
بعد دخول الإسلام للأندلس لاحظ الناس الفرق بين العرب وبين حكامهم من القوط فمال كتير منهم للعرب واعتبروهم فى الأول مجرد سادة جدد ليهم ولكنهم أرحم وده سهل من قبول عامة الناس للمسلمين على عكس القوط اللى دافعوا عن مصالحهم قدر إستطاعتهم .. مع الوقت سيطر المسلمين على تقريباً 80 % من أرض إسبانيا والبرتغال .. اللى يهمنا فى الجزء ده هو الإقليم الموجود فى الشمال الشرقى لإسبانيا .. الإقليم اللى عاصمته واحدة من أشهر مدن العالم حالياً .. برشلونة ..
ـــــ
برشلونة على مدار تاريخها كان ليها خصوصية عن باقى مدن إسبانيا .. شعبها بعتبر إن قوميته متفردة عن قومية الإسبان وده زود إعتزازهم بنفسهم وخلى عندهم ميل فطرى للثورة ورغبة مستمرة فى الإستقلال .. الرغبة دى كانت هى الورقة اللى إستخدمها الخونة والمعارضين لحكام المسلمين فى الأندلس فى التمرد والثورة عليهم ..
الحقيقة إن الخيانة فى الأندلس كانت متكررة بشكل مرعب .. أعتقد مفيش إقليم أو مدينة فيه إلا وتعرض حاكمها للخيانة من أقرب الناس ليه لدرجة تخليك مندهش من إستمرار المسلمين هناك لحوالى 800 سنة .. وضع مأساوى زى ده لو حصل لأى أمة تانية مكانتش هتستمر أكتر من 100 سنة بالكتير .. عامة النهاردة أنا هركز على الخيانات اللى تسببت فى ضياع برشلونة من يد المسلمين وخلينا نمشى مع بعض بالترتيب ..
أول خيانة حصلت سنة 157 هجرياً فى عهد ( عبد الرحمن الداخل ) أول حكام الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية فى دمشق .. إتنين من ولاة الداخل هما ( سليمان الأعرابى ) والى برشلونة و ( الحسين بن يحيى الأنصارى ) والى سرقسطة إتفقوا مع بعض على التمرد ضد عبد الرحمن الداخل وبالفعل قدروا إنهم يجمعوا أنصارهم ويهزموا جيش قرطبة وكمان أسروا قائد الجيش ( ثعلبة بن عبيد الجذامى )
سليمان الأعرابى مكتفاش بكده .. ده قرر إنه يراسل ملك الفرنجة كارل الأكبر أو ( شارلمان – Charlemagne ) زى ما هو متعارف عليه عشان يساعده فى الإنتصار على الداخل ووعده بتسليمه برشلونة وسرقسطة مقابل مساعدته وعشان يثبتله حسن نواياه بعتله القائد ( ثعلبه الجذامى ) فحبسه شارلمان فى أحد قلاع فرنسا .. بعد فترة قصيرة بيخرج جيش الفرنجة من فرنسا وبيدخل على الأندلس ولكن شارلمان كان ملك طماع فراح الأول وهاجم بلاد البشكنس ( إقليم الباسك ) ونهب مدينة بنبلونة وبعدها راح على سرقسطة رغم إن حاكمها كان حليف ليه وحاصرها بمساعدة سليمان الأعرابى .. سبحان الله .. حتى الخونة خانوا بعض .. المهم .. بعد فترة من الحصار بيضطر شارلمان إنه يفك الحصار عن سرقسطة وبيرجع على بلاده بسبب ثورة الساكسونيين عليه ولكنه من شدة غيظة بيقبض على سليمان الأعرابى وبياخده معاه كأسير لإنه وعده بسهولة تسليم سرقسطة وبرشلونة ..
الأعرابى كان عنده ولدين .. عيشون ومطروح .. الإتنين دول نجحوا فى التعاون مع البشكنس وجمعوا جيش وهجموا على مؤخرة جيش شارلمان ونجحوا فى هزيمتهم وكمان أنقذوا سليمان الأعرابى لكن بمجرد رجوعه للأندلس بينجح الحسين الأنصارى حاكم سرقسطة فى قتله بسبب خيانته لعهده معاه ..
ـــــ
ثانى فصول الخيانة بتبتدى بعد وفاة عبد الرحمن الداخل مباشرة .. الداخل كان عنده 11 ولد وبدل ما يختار إبنه ( سليمان ) أو إبنه ( عبد الله ) بإعتبارهم أكبر أولاده إختار إبنه ( هشام ) لإنه كان أقدر منهم على الحكم وطبعاً الإختيار ده معجبش إخواته الأكبر منه ..
فى البداية أعلن سليمان العصيان فى طليطلة لإنه كان والى عليها وخلال أيام انضم ليه أخوه عبد الله .. بعدها سافر سليمان على قرطبة فى السر وحاول يستميل بعض المعارضين لكنه فشل وطاردته شرطة المدينة فهرب على مدينة ماردة وهناك فشل إنه يدخلها لإن واليها رفض دخوله من الأساس فهرب مرة تانية على بلنسية ومنها هرب على مُرسية .. كل ده وهشام باعت وراه جيش يدور عليه لحد ما ضاقت بيه السبل واستسلم بعد طلبه للأمان فوافق هشام وعفى عنه لكن فى المقابل نفاه هو وأخوه الثانى عبد الله للمغرب سنة 174 هجرياً ..
القصة مبتتنتهيش هنا .. ( هشام بن عبد الرحمن ) توفى سنة 180 هجرياً وقبل ما يتوفى نصب إبنه ( الحكم ) كولى للعهد من بعده والحقيقة هو كان مختلف عن أبوه شوية .. يعنى هشام كان متدين بيتقرب للفقهاء والعلماء فى حين إن الحكم كان رافض ده وكان خايف من تعاظم دور رجال الدين فى الدولة فأهملهم نسبياً وده خلى الفئة دى تعاديه مع الوقت ..
ـــــ
ثالث الخيانات حصلت فى عهد ( الحكم ) وتحديداً سنة 181 هجرياً .. أعمامه سليمان وعبد الله المنفيين فى المغرب لما عرفوا خبر توليه الحكم غضبوا وسافروا فى السر للأندلس وراحوا على برشلونة وسرقسطة بحكم إنه أكتر إقليم فيه توتر فى الدولة ..
أول ما وصل سليمان بدأ فى حشد الأنصار لمقاتلة الحكم لكن متمردى الداخل مكانوش كفاية فقرر عبد الله إنه يروح لشارلمان ملك الفرنجة فى مدينة إسمها ( إكس لا شابيل – Aix la Chapelle ) – حالياً هى مدينة آخن الألمانية – وطلب معاونته فى السيطرة على الأندلس وطرد إبن أخوه من البلاد .. طبعاً شارلمان ملاقاش فرصة أحسن من كده .. فى النهاية هو كان يكفيه السيطرة على بعض المدن اللى بتمثل المدخل لدولته زى برشلونة وجرندة وطرغونة ولاردة .. هو كان متأكد إن السيطرة على الأندلس كله شبه مستحيل ولكن دعم سليمان وعبد الله هيخليه يستولى على الإقليم اللى بيمثل حائط الصد ضد هجمات المسلمين المتوقعة ضد بلاده ..
طبعاً وافق شارلمان على طلب عبد الله وبعت معاه جيش وحط على قيادته إبنه ( لويس ) أمير إقليم أقطانية – فى الجنوب الغربى لفرنسا حالياً – لكن الجيش ده خاف من خيانة الحلفاء المسلمين أو إنها تكون خدعة من ( الحكم ) لإستدراجهم فمدخلوش جوه البلد وفضلوا معسكرين على الحدود فلما حس الخونة إن لويس مش هيساعدهم بجد إستسلموا وسيطر الحكم على مقاليد الأمور تانى ..
مع إستسلام المدن المتمردة تباعاً هرب عبد الله وانضم لأخوه سليمان فى بلنسية بعد ما قدر إنه يحشد بعض المتمردين من البربر وحاولوا يهجموا على قرطبة لكن جيش قرطبة قدر يهزمهم فى معركتين ورا بعض سنة 182 و 183 هجرياً واتقبض على سليمان وتم إعدامه جزاء ليه على اللى عمله .. أما عبد الله فهرب واستخبى فى بلنسية ومن هناك طلب الأمان من ( الحكم ) فعفى عنه بشرط إنه يعيش الباقى من عمره فى بلنسية ..
ـــــ
حروب جيش قرطبة ضد الخونة دول إستمرت لحد سنة 184 هجرياً وبسببها تشتت الجيش فى أكتر من جبهة لإن الإضطرابات كانت بدأت تنتشر فى أكتر من مكان فاهتم الحكم بالقضاء على أقرب الإضرابات لمركز الحكم فى قرطبة وأهمل نسبياً الثغور .. الوضع ده شجع شارلمان على الهجوم مرة ثالثة على برشلونة .. بالظبط بعد أقل من سنة وتحديداً فى 185 هجرياً خرج جيش الفرنجة من جنوب غرب فرنسا وعدى جبال البرينيه على الحدود بين فرنسا وإسبانيا وهناك تم تقسيم الجيش لجزئين .. جزء بقيادة حاكم مدينة جرندة وده حاصر برشلونة .. وجزء بقيادة ( جيوم ) أمير تولوز وده عسكر فى جنوب غرب برشلونة عشان يمنع أى دعم ممكن يجيلها من ناحية قرطبة ..
سبع شهور كاملة عاشتها برشلونة فى حصار خانق .. لا أكل ولا شرب ولا مدد من أى نوع لحد ما هلك آلاف من أهلها .. حتى أغلب المدن اللى حواليها كانت بتعيش إضطرابات سياسية كبيرة زى سرقسطة وبلنسية وكان فيها معارضين كتير لسياسة قرطبة وبالتالى مكانش متوقع منهم أى مساعدة لأهل برشلونة المحاصرين .. زاد من سوء الوضع إن شارلمان حرك جيش ثالث بقيادة إبنه ( لويس ) وبالتالى زادت قسوة الحصار ودى كانت الضربة القاضية لأهل برشلونة وواليهم ( سعدون الرعينى )
ورغم ضعف الآمال وقلة الحيلة إلا إن الوالى ( سعدون ) قرر فى مهمة إنتحارية إنه يخترق الحصار ده بهدف الوصول لقرطبة لطلب المدد وبالفعل تسلل فى أحد الليالى وحاول يهرب من جنود الفرنجة إلا إنه فشل وتم القبض عليه .. طبعاً فى الوقت ده كان مات عدد كبير جداً من سكان برشلونة وانتشرت الأمراض ووقع أجزاء كتير من سور المدينة وبالتالى إقتحامها بقى مجرد وقت ومع أسر والى المدينة ضعفت الهمم أكتر فقرر أهلها تسليمها فى ربيع الأول سنة 185 هجرياً – إبريل 801 ميلادياً ومن وقتها مرجعتش للمسلمين إلا لشهور معدودة فى عهد الحاجب المنصور ..
ـــــ
مدينة كانت هى الأكبر والأشد حصانة فى الثغر الأعلى للأندلس وبوابة فتوحات المسلمين فى فرنسا وما تلاها من بلاد وقعت بسبب الإختلاف والفرقة وخيانة أقرب الناس .. الإخوات حقدوا على بعض .. والأعمام تآمروا وخذلوا الأبناء .. والولاة بصوا تحت رجليهم ومتاع الحياة الدنيا زغلل عيونهم فخسر المسلمين ثانى أحصن مدن الأندلس بعد طليطلة ..
برشلونة اللى كانت ديار إسلام لمدة 92 سنة بتقع بكل سهولة وفى 7 شهور بس بسبب الخونة دول ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
ـــــ