أثر الخيانة ( 7 ) .. مآساة ميافارقين

( هولاكو – Hulagu Khan ) بعد ما استولى على بغداد قرر إنه يستمر فى خطته للسيطرة على بلاد المسلمين .. حملة هولاكو كان هدفها المبدئى غزو الممالك بطول الطريق من أول خوارزم مروراً ببغداد ثم بلاد الشام لحد الوصول لمصر .. الخطوة الطبيعية بعد بغداد كانت بلاد الشام لكن جيش هولاكو كان ضخم جداً وبالتالى مكنش عنده أدنى مشكلة من تقسيمه على أكتر من جبهة ..

الجبهة اللى إختارها هولاكو وقتها كانت ميافارقين ..

ـــــ

ميافارقين فى الوقت ده كانت جزء من المملكة الأيوبية .. إقليم كبير موجود فى شرق الأناضول .. دلوقت هى مجرد مدينة صغيرة إسمها سلوان ضمن نطاق محافظة ديار بكر التركية .. ميافارقين كانت تحت حكم واحد من السلالة الأيوبية هو ( الكامل محمد بن غازى ) والراجل ده يا جماعة كان بطل .. الحقيقة كتب التاريخ أنصفت الراجل ده جداً مش بس عشان أخلاقه وتدينه ولكن بسبب مواقفه اللى كانت كلها عزة وإباء فى زمن إمتلأ بالحكام المنبطحين .. إحنا لو فكرنا نحصر الحكام الرجالة بجد وقتها فمظنش هنلاقى غير 4 بالعدد .. ( جلال الدولة منكبرتى ) حاكم الدولة الخوارزمية و ( الكامل محمد بن غازى ) حاكم ميافارقين و المماليك طبعاً وعلى رأسهم ( سيف الدين قطز ) ومن بعده ( الظاهر بيبرس )

الإمام الذهبى وصف ( الكامل محمد ) فى سير أعلام النبلاء وقال فيه :

( وكان شاباً عاقلاً شجاعاً مهيباً مُحسناً إلى رعيته مجاهداً غازياً ديّناً تقياً حميد الطريقة )

أما قطب الدين اليونينى فوصفه فى ذيل مرآة الزمان وقال فيه :

( وكان رحمه الله ملكاً جليلاً ديّناً خيراً عادلاً عالماً محسناً إلى رعيته وسائر من فى خدمته .. كثير التعبد والخشوع .. لم يكن فى البيت الأيوبى من يضاهيه فى ديانته وحسن طريقته رحمه الله ورضى عنه )

ليه بقى التقديمة دى عن ( الكامل محمد ) .. عشان تقارنوه باللى هتقرأوه دلوقت ..

ـــــ

بعد تخريب بغداد حكام كل الممالك المحيطة بيها تسابقوا فى إظهار الطاعة للمغول واللى تأخر فى تأكيد طاعته هولاكو كان بيبعتله رسول يجيب معاه من الآخر .. كلهم أعلنوا تبعيتهم لهولاكو .. كلهم إلا واحد بس هو الكامل محمد .. لو فتحنا الخريطة وبصينا على ميافارقين هتلاقى الممالك اللى حواليها كالآتى :

* من الشرق هتلاقى بلاد الأرمن بقيادة الملك ( هيثوم )

* من الشمال الشرقى مملكة الكُرج ( جورجيا )

* من الغرب إمارات السلاجقة فى الأناضول ودول كانوا تحت حكم إتنين إخوات هما ( كيكاوس الثانى ) و ( قلج أرسلان الرابع )

* من الجنوب الشرقى إمارة الموصل بقيادة ( بدر الدين لؤلؤ )

* من الجنوب الغربى بلاد الشام بأقسامها .. حمص تحت قيادة ( الأشرف موسى الأيوبى ) وبلاد الكرك فى الأردن تحت قيادة ( المغيث عمر ) ودمشق وحلب تحت قيادة ( الناصر يوسف الأيوبى )

كل دول إما كانوا متحالفين رسمياً مع المغول أو بعتوا رسايل برغبتهم بالتحالف .. بالشكل ده ميافارقين كانت محاصرة من كل الإتجاهات ..

ـــــ

من بين كل دول خلينا نركز على ( الناصر يوسف الأيوبى ) .. الراجل ده يا جماعة كان ب 100 وش .. بيلعب على كل الحبال .. مصلحته الشخصية فوق أى إعتبار وهحكيلكم دلوقت ليه بقول كده .. هولاكو لما دخل بغداد كان الناصر من أوائل الحكام اللى أعلنوا صداقته بل إنه فوق ده طلب مساعدته على غزو مصر وطرد المماليك منها .. كان فاكر إنه لما يطاطى لهولاكو هيسيبه على حكم أراضيه لكن هولاكو مكانش بيفكر كده .. إمبراطورية المغول كانت قايمة على فكرة واحدة .. السيطرة على كافة الأراضى اللى فى إتجاه غزوهم بدون ترك شبر واحد منها .. يعنى أسيبك تحكم ماشى لكن بإسمى .. حكم صورى يعنى ومتقدرش تاخد قرار واحد بدون الرجوع ليا ..

الناصر الأيوبى فعلاً كان فاكر إن المغول ممكن يبقوا حلفاء ليه لدرجة إنه تلاعب بالكامل محمد لمصلحتهم .. الكامل محمد لما رفض الخضوع للمغول لجأ ليه عشان يساعده بحكم إنه الأقرب ليه من ناحية الدم والمسافة .. الإتنين من البيت الأيوبى وحلب على تماس مع حدود ميافارقين فطبيعى إنه يلجأ ليه أول واحد .. عندها الناصر وعد الكامل بالنصرة فى حالة حصار المغول لميافارقين لكن فعلياً ده محصلش نهائياً بل إنه فى نفس الوقت اللى كان بيوعد الكامل محمد بالمساعدة كان بيبعت الهدايا والتحف لهولاكو لإسترضائه ..

أخر دفعة من الهدايا بعتها الناصر لهولاكو بعتها مع إبنه ( العزيز بن الناصر ) وبعت معاها رسالة بيكرر فيها طلبه بمساعدة المغول ليه فى غزو مصر لكن سبحان الله الرسالة دى جابت أثر عكسى .. أولاً لإن هولاكو كان خلاص قرر إستمرار غزواته ناحية الغرب وثانياً لإن هولاكو غضب جداً إن الناصر بعت الرسالة مع إبنه ومجاش بنفسه يقدمها .. على طول جاب الكتبة بتوعه – وكانوا مسلمين بالمناسبة ومن أصحاب اللغة كمان – وأمرهم يكتبوله رسالة فيها تهديد واضح وصريح للناصر فكتبوا فيها :

( الذى يعلم به الملك الناصر صاحب حلب أنا نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى وقتلنا فرسانها وهدمنا بنيانها وأسرنا سكانها كما قال الله تعالى فى كتابه العزيز :

” قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ “

واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب فواقعه الندم واستوجب منا العدم .. وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة فجمع المال ولم يعبأ بالرجال .. وكان قد نمى ذكره وعظم قدره ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال .. إذا وقفت على كتابى هذا فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روى زمين – أى ملك ملوك الأرض – تأمن شره وتنل خيره كما قال الله تعالى فى كتابه العزيز :

” وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ  *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ “

ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .. وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بأموالهم وحريمهم إلى كروان سراى – مدينة فى تركيا – فإن كانوا فى الجبال نسفناها وإن كانوا فى الأرض خسفناها )

ـــــ

طبعاً الرسالة دى كان ليها أثر سيء جداً على الناصر الأيوبى وهتخليه ياخد إجراءات مختلفة عن اللى كان بياخدها قبل كده .. لكن ده مش موضوعنا النهاردة .. النهاردة إحنا هنركز على اللى ميافارقين .. فى جمادى الثانى سنة 656 هجرياً وتحديداً بعد 4 شهور من سقوط بغداد قسم هولاكو جيشه لجزئين .. جزء بقيادته هو شخصياً وده إتحرك لحلب وجزء تحت قيادة إبنه ( أشموط – Yoshmut ) وده إتحرك لحصار ميافارقين ..

الحصار إستمر حسب أغلب الروايات لمدة 18 شهر وفى بعض الروايات قالت 20 وبعضها قال 24 يعنى بنتكلم من سنة ونص لسنتين .. الحصار كان شديد جداً إشترك فيه قوات من أغلب الممالك اللى ذكرناها فوق .. سنتين مدخلش المدينة أى معونة من أى نوع .. لا أكل ولا شرب ولا جنود ولا سلاح .. المقريزى فى كتابه السلوك لمعرفة الملوك وصف المآساة اللى عاشها أهل ميافارقين وقتها فقال :

( وحاصروا أهلها حتى أكلوا من عدم الأقوات جلود النعال التى تلبس فى الرجلين )

بدر الدين العينى قال فى كتابه عِقد الجُمان :

( فحاصروها ونصبوا عليها المنجنيقات من كل ناحية فقاتلت أهلها وامتنعوا عن تسليمها وصَبّروا أنفسهم على الحصار الشديد والجوع المُبيد حتى أكلوا الميتات والدواب والسنانير – القطط – والكلاب )

أما الإمام الذهبى فقال فى كتابه سير أعلام النبلاء :

( ونفدت الأقوات حتى كان الرجل يموت فيؤكل )

ورغم كل ده إلا إن الكامل محمد مستسلمش وفضل يحاربهم بشكل شبه يومى .. كان يجهز جيشه باللى يقدر عليه ويخرج بيهم يقاتل المغول وبعدها يدخل تانى للمدينة ويقفل بواباتها .. هو قتل منهم كتير فعلاً لكن ميزان العدد كان فى صالحهم تماماً فمهما تقتل منهم هما بيجيلهم المدد فى حين إن عدد جنودك بيتناقص بسبب الحصار .. المغول لما حسوا إن خسايرهم البشرية بتزيد يوم عن التانى بنوا أسوار حوالين أسوار المدينة بحيث يتفادوا الهجوم الخاطف اللى كان بيعمله الكامل محمد ضدهم .. بكده أهل ميافارقين بقوا محاصرين بسورين .. سور مدينتهم الأصلى والسور اللى بناه المغول ..

إستمر الحال بالشكل ده لحد ما خلاص هجمات الكامل إنقطعت تماماً ومات أهل البلد كلهم ومتبقاش منهم إلا 90 إنسان .. الإمام الذهبى بيقول :

( فخرج إليهم غلام أو أكثر – أى خرجوا للمغول – وجَلوا للتتار أمر البلد فما صدّقوا .. ثم قربوا من السور وبقوا أياماً لا يجسرون على الهجوم فدلى إليهم مملوك للكامل حبالاً فطلعوا إلى السور فبقوا أسبوعاً لا يجسرون .. وبقى بالبلد نحو التسعين بعد ألوف من الناس )

إنتوا متخيلين الكامل محمد رحمة الله عليه عمل فيهم إيه .. جيش مغولى مقدر بعشرات الآلاف وحلفاء من الأرمن والكُرج وسلاجقة الأناضول وغيرهم من حكام المسلمين المنبطحين ورغم كده لما الأطفال خرجولهم وقالولهم إن أهل البلد كلهم ماتوا مصدقوش لدرجة إنهم طلعوا على الأسوار وشافوا المدينة بعيونهم ورغم كده قعدوا أسبوع كامل يراقبوها خايفين يدخلوها .. كل ده عمله لوحده .. فما بالكم لو كان حكام المسلمين ساعدوه ووقفوا جنبه ؟! .. سبحان الله العظيم ..

الراجل ده يا جماعة كان عنده قوة نفس وإيمان بالله منقطع النظير .. يعنى مثلاً قبل الحصار كان خرج أولاده ونساؤه بره ميافارقين وسكنهم فى حصن مش بعيد عن المدينة فالمغول راحولهم الأول وإقتحموا الحصن وقبضوا على النساء والصبيان وجابوهم على أبواب المدينة وساوموه بيهم لتسليم المدينة فرفض وقالهم :

( ما لكم عندى إلا السيف )

ـــــ

دخل المغول للمدينة وقبضوا على الكامل محمد وبعتوه لهولاكو فلما دخل عليه لقاه بيشرب خمرة فناوله كاس عشان يشرب فرفض وكانت زوجته قاعدة جنبه فقالها تناوله هى الكاس فرفض الكامل للمرة التانية وقيل إنه شتم وبصق فى وجه هولاكو وده طبعاً خلاه يغضب جداً وأمر بقتله فوراً فقطعوا راسه وعلقوها على رمح وطافوا بيه فى البلاد .. حلب وحماة وحمص وبعلبك وأخيراً دمشق واللى كان هولاكو إستولى عليهم قبل ما يقرروا إنهم يعلقوها على باب فى دمشق إسمه باب الفراديس ..

سقطت ميافارقين ومات حاكمها البطل بعد خيانة حكام المسلمين ليه حتى أقرب الناس إليه دماً ورحماً .. كل الحكام دى ماتت لكنه كان الوحيد فيهم اللى مات راجل .. والله يا جماعة نهايتهم كلهم كانت أسوأ من السوء .. منهم اللى مات بعد كام شهر وملحقش يتمتع بشيء ومنهم اللى مات منفى ومنهم اللى مات على إيد هولاكو نفسه ومنهم اللى مات بالقباقيب على إيد الخدم .. وسبحان المعز المذل ..

ـــــ