أثر الخيانة ( 3 ) .. سقوط بغداد ( 2 )

الخيانة فى زمن سقوط بغداد كانت هى الإجراء المتبع فى الغالب .. هولاكو قبل ما يدخل على بغداد كانت بتوصله هدايا ورسايل ملوك العراق والشام بإستمرار .. كلهم بيقولوله إحنا معاك وجاهزين لنصرتك لو حبيت المهم تسيبنا على كراسينا .. يعنى مثلاً ( بدر الدين لؤلؤ ) حاكم الموصل خدها من قاصرها ودخل فى طاعة المغول مباشرة .. ( المغيث عمر ) حاكم الكرك وعد بالنصرة فى حالة إستمرار غزوات المغول على مصر .. ( الناصر يوسف الأيوبى ) طلب نصرة المغول والإشتراك معاه فى غزو مصر وطرد المماليك منها .. كل ده والخليفة الغلبان بيهدد ( هولاكو ) إنه يقدر يجهز الجيوش فى أيام .. بيهدده بدول .. كوميديا سودة والله ..

ـــــ

الخيانة الكبرى بقى مجاتش من برة .. دى جت من جوه قصر الخلافة نفسه .. فاكرين الوزير ( ابن العلقمى ) اللى كلمتكم عليه الجزء اللى فات .. الراجل ده بينتمى للشيعة الإثنى عشرية وكان كاره لفكرة إن خليفة المسلمين يكون من السُنّة وكان عنده رغبة قوية فى تنصيب خليفة شيعى بداله .. هو للأمانة مكانش ضد ( المستعصم بالله ) بالذات لكنه كان ضد المذهب عموماً .. الشيعة الإثنى عشرية بيؤمنوا بعدم إقامة الجهاد إلا بحضور المهدى وهو الإمام الثانى عشر حسب معتقدهم .. يعنى مثلاً فى مقولة الشيعة بينسبوها للإمام جعفر الصادق بيقول فيها :

( كل راية ترفع قبل قيام القائم – أى المهدى – فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عز وجل )

وفى مقولة تانية بينسبوها للإمام محمد الباقر بيقول فيها :

( مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان )

فكان طبيعى جداً إن الوزير ده يكره فكرة الجهاد ضد أى عدو خاصة لو كان العدو ده متمكن وقوى زى المغول .. طيب هل هو كان مستنى المغول عشان يظهر خيانته ؟ .. الحقيقة لأ .. الراجل ده إتعين فى الوزارة سنة 642 هجرياً .. يعنى قبل وصول المغول ب 14 سنة .. 14 سنة والراجل بيستغل منصبه عشان يضعف الخلافة العباسية أكثر ما هى ضعيفة .. جيش الخلافة كان عدده 100 ألف جندى فى أوائل عهد ( المستعصم ) وفضلوا يقلوا مع الوقت لحد ما بقوا 10 آلاف بس بسبب أفعال الوزير .. الإمام الذهبى بيقول عن الموضوع ده :

( ثم ركن إلى وزيره ابن العلقمى – أى المستعصم – فأهلك الحرث والنسل وحَسّن له جمع الأموال والإقتصار على بعض العساكر وقطع الأكثر فوافقه على ذلك )

أما إبن كثير فقال :

( وجيوش بغداد فى غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس .. وبقية الجيش كلهم قد صُرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم فى الأسواق وأبواب المساجد )

شيخ الإسلام بن تيمية بيقول فى كتابه منهاج السنة النبوية :

( وكان وزير الخليفة البغدادى الذى يقال له ابن العلقمى لم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين .. ويسعى فى قطع أرزاق عسكر المسلمين وإضعافهم .. وينهى العسكر والعامة عن قتالهم ويثبط الخليفة ويرعبه منهم بأنواع من الكيد والمكر حتى أدخل التتار بغداد بلا قتال يُذكر )

ـــــ

( ابن العلقمى ) كان على خلاف حاد مع قائد الجيش ( مجاهد الدين الدوادار ) وكل واحد منهم كان عاوز يمشى رأيه على التانى .. قبل وصول المغول بسنة واحدة حصلت أعمال شغب طائفية فى بغداد تأذّى منها الشيعة اللى كانوا عايشين فى منطقة الكرخ غرب نهر دجلة وكان منهم أقارب ( ابن العلقمى ) اللى حاول طبعاً إنه يجيب حقهم لكن ( الدوادار ) وقفله من باب المكايدة السياسية واستعان بأحمد إبن الخليفة المستعصم اللى بالفعل نصره على الوزير ..

الحادثة دى زودت حقد ( ابن العلقمى ) على الخلافة العباسية والمنتمين ليها وعشان كده أول ما عرف بوصول المغول لمدينة همدان أرسل رسالة لهولاكو بيطمعه فى دخول بغداد وبيعرض عليه خدماته مقابل إنه يكون حاكم للمدينة فى المستقبل .. للأمانة هولاكو مكانش مستنى حد يطمعه ومسألة دخول بغداد كانت محسومة لكن رسايل ابن العلقمى ساعدته إنه يكون له جاسوس جوه المدينة وده طبعاً هيسهل عليه كتير .. بعدها حصلت المراسلات اللى إتكلمنا عليها فى الجزء الأول وحاول الوزير إنه يشجع الخليفة على الإستسلام لكن محاولاته فشلت وحصلت بالفعل المواجهة العسكرية الأولى على حدود بغداد وانهزم جيش الخلافة وحاول ( الدوادار ) إنه يهرب بمركب لكن المغول غرقوها بالمجانيق فرجع جرى على المدينة واحتمى بأسوارها ..

بعد كده حاصر المغول بغداد من كافة النواحى ونصبوا المجانيق والمدرعات عند المدخل الشرقى للمدينة لتكثيف الهجوم من هناك وبدأوا فى رمى المدينة بالأسهم .. كل ده والخليفة مش حاسس بالمصيبة اللى بيواجهها .. والله يا جماعة أنا عارف إنكم ممكن متصدقوش اللى هكتبه ده بس للأسف ده اللى حصل .. فى الوقت اللى المدينة كانت بتتقصف بالحجارة والأسهم الخليفة كان فى دنيا تانية .. إبن كثير قال إن الخليفة كان فى جلسة جلسات الحظ وكانت قدامه جارية إسمها ( عرفة ) كانت بترقصله وتلاعبه فجالها سهم من أحد شبابيك القصر وماتت بسببه .. أول ما الخليفة شاف المنظر خاف واستخبى وطلب إنه يشوف السهم ده فلقى مكتوب عليه :

( إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوى العقول عقولهم )

طبعاً بعد اللى حصل بدأ الخليفة يأمن شبابيك القصر عشان الحادثة دى متتكررش تانى .. مش يركز فى المصيبة اللى هو فيها .. لأ .. أمر بتأمين الشبابيك ..

ـــــ

تفاصيل خيانة ( ابن العلقمى ) ذكرها المؤرخ ( تاج الدين السبكى ) فى كتابه طبقات الشافعية الكبرى و ( ابن تغرى بردى ) فى النجوم الزاهرة وغيرهم كتير .. القصة بدأت لما ضاق الحال بأهل المدينة وكان واضح إن خلاص الموضوع إنتهى والخليفة بدأ يحس أخيراً إن حياته بقت فى خطر فأرسل هدية ورا التانية للمغول و ( هولاكو ) كان بيرفضهم بإستمرار ومقبلش غير بخروج قادة الجيش ( الدوادار ) و ( سليمان شاه ) هما وجنودهم وتسليم نفسهم وحتى لما ده حصل وتم إعدامهم الهجوم موقفش .. عندها عرض عليه الوزير إنه يخرج لهولاكو ويفاوضه على شروط الصلح فوافق الخليفة طبعاً على إقتراحه ..

خرج ( ابن العلقمى ) وقابل ( هولاكو ) وفكره بالرسايل اللى كانت بينهم وقاله إنه ممكن يجيبله الخليفة لحد عنده بإستخدام الخديعة .. ومش بس الخليفة .. ده كمان ممكن يخرجله أى حد هو يطلبه بالإسم .. وافق هولاكو على خطته وأمره يرجع وينفذ اللى إتفقوا عليه فرجع الوزير ودخل على الخليفة وهو مبتهج وقاله :

( إن السلطان يا مولانا أمير المؤمنين قد رغب فى أن يزوج بنته بابنك الأمير أبى بكر ويبقيك فى منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم فى سلطنته .. ولا يُؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه .. فمولانا أمير المؤمنين يفعل هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين وبعد ذلك يمكننا أن نفعل ما نريد والرأى أن تخرج إليه )

فرح الخليفة بالعرض ده وخرج هو و 700 من أعيان وكبراء البلد عشان يقابلوا هولاكو وأول ما دخلوا معسكر المغول تم عزل الخليفة ومعاه 17 شخص من خاصته وأخدوا الباقيين وأعدموهم .. مكتفاش ( ابن العلقمى ) بكده .. دخل تانى للمدينة وطلب من الفقهاء إنهم يخرجوا عشان يحضروا عقد الزواج وأول ما وصلوا إتعدموا .. بعدها دخل وطلب أبناء وأقارب الخليفة وبعدهم طلب حاشية الخليفة وعمال القصر وهكذا .. كل طائفة منهم أول ما يوصلوا لهناك يستقبلهم جنود المغول وياخدوهم على مقابر بغداد القديمة وهناك يتدبحوا ..

ـــــ

بعد 4 أيام من دخول بغداد أمر هولاكو بحضور الخليفة وأمره بإخراج كنوزه وأمواله من قصره وبعت معاه ( ابن العلقمى ) و ( نصير الدين الطوسى ) اللى إتكلمنا عليه الجزء اللى فات فأخرج لهم ما جمعه بنى العباس خلال خمسة قرون فكدسوه حتى صار وكأنه جبل على جبل حسب وصف مؤرخ المغول ( رشيد الدين الهمذانى )

إستسلام الخليفة وإستخراج أمواله خلى هولاكو يميل لقبول فكرة عدم قتله ووافق على قسمة خراج المدينة بينهم فلما حس ( ابن العلقمى ) إن حكم المدينة هيروح منه قال لهولاكو :

( متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك )

فاقتنع بكلامه واستدعى الخليفة عشان يقتلوه وكان حاضر الموقف واحد من المسلمين قيل إنه مُنجم لإن هولاكو كان بيحب التنجيم .. الراجل ده حاول يحافظ على حياة الخليفة فقال لهولاكو :

( إن هذا إن أهريق دمه تُظلم الدنيا ويكون سبب خراب ديارك فإنه إبن عم رسول الله ﷺ وخليفة الله فى أرضه )

فرد ( نصير الدين الطوسى ) وقال :

( يُقتل ولا يراق دمه )

الروايات إختلفت .. إتقال إنهم خنقوه وإتقال إنهم غرقوه ولكن الرواية الأشهر بتقول إنهم حطوه هو وإبنه أبو بكر فى شوال من الخيش والجلد عشان دمهم مينزلش على الأرض وفضلوا يضربوهم لحد ما ماتوا ..

ـــــ

سقوط بغداد كان كارثة وكان بداية تأخر الحضارة الإسلامية .. الدموية اللى تم التعامل بيها مع أهل العراق كانت مرعبة .. المغول فضلوا يدبحوا فى أهل بغداد لمدة 40 يوم ووصل عدد القتلى فى أقل التقديرات ل 800 ألف قتيل وفى أعلاها ل 1.8 مليون ومنجيش من سكان بغداد إلا المسيحيين بعد توصية زوجة هولاكو المسيحية واليهود اللى لجأوا لبيت الوزير ( ابن العلقمى ) وبعض تجار الشيعة اللى وضعوا أموالهم فى الكنائس ولجأوا لبطريرك المدينة .. أريقت الخمور فى المساجد وإتمنع الآذان وهرب الناس واستخبوا فى الآبار وفى مصارف القاذورات لدرجة إنهم لما خرجوا من أماكنهم بعد 40 يوم معرفوش بعض من شدة الضعف وكانوا أشبه بالجثث ..

أما عن ( ابن العلقمى ) فمات بعد شهور وهو مذلول لإن المغول تعاملوا معاه بدونية شديدة لدرجة إنه كان بيهان من أقل جنودهم رتبة .. فى قصة وفاته بيحكى ( تاج الدين السبكى ) وبيقول :

( وأما الوزير فإنه لم يحصل على ما أمل وصار عندهم أخس من الذباب وندم حيث لا ينفعه الندم .. ويُحكى أنه طُلب منه يوماً شعير فركب الفرس بنفسه ومضى ليُحصّله لهم وهذا يشتمه وهذا يأخذه بيده وهذا يصفعه بعد أن كانت السلاطين تأتى فتُقبّل عتبة داره والعساكر تمشى فى خدمته حيث سار من ليله ونهاره .. وإذا بامرأة تراه من طاقٍ فقالت له :

” يا ابن العلقمى .. أهكذا كنت تركب فى أيام أمير المؤمنين “

فخجل وسكت وقد مات غبناً بعد أشهر يسيرة ومضى إلى دار مقبره ووجد ما عمل حاضراً )

ـــــ