الشخصيات التاريخية أساميها بتخلد لأسباب كتير .. قراراتهم وإنجازاتهم وأسلوب إدارتهم هو اللى بيحدد بشكل كبير حجم إنجازهم وكل ما اقترن الإنجاز بفترة تراجع للدولة كل ما كان أكبر وأضخم لإن عوامل النجاح بالتأكيد بتكون أقل .. التاريخ ذكر أسماء كتير أنجزوا فى حياتهم وسلط عليهم الضوء بكثافة لكنه فى المقابل مر على بعض الشخصيات مرور سريع لا يتناسب أبداً مع حجم الأثر اللى تركوه بالفعل .. عشان كده حبيت أكلمكم عن شخصية من الشخصيات المظلومة تاريخياً ومش كل الناس تعرفه ..
النهاردة هكلمكم عن ( أبو الحزم جهور )
ـــــ
أبو الحزم جهور هو أحد رجال الدولة الأموية فى الأندلس .. ومكانش أى حد .. ده كان بينتمى لعائلة سياسية مرموقة فى الدولة الأموية خلال عصرها الثانى .. جده الأكبر إسمه ( يوسف بن بخت ) وده كان أحد موالى عبد الملك بن مروان وهو صغير وعاصر الدولة وهى فى عز قوتها وعاصرها وهى بتنهار .. عشان كده كان من أوائل المنضمين لعبد الرحمن الداخل فى رحلته إلى الأندلس واللى لما استقر ليه الأمر هناك عينه حاجب لقصره ..
المنزلة السياسية مش بتقف عن الجد ولكن امتدت للأجيال اللاحقة .. على سبيل المثال ” عبيد الله بن محمد ” وده واحد من أحفاد يوسف بن بخت تولى الوزارة فى عهدين متتالين .. عهد ” عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط ” وعهد ” عبد الرحمن الناصر ” .. أما إبنه ” جهور بن عبيد الله ” فتولى الوزارة فى عهد ” عبد الرحمن الناصر ” .. الإبن ده أنجب ولدين .. مروان ومحمد .. والإثنين تولوا الوزارة .. مروان تولاها فى أواخر عهد عبد الرحمن الناصر ومحمد تولاها فى عهد الحاجب المنصور .. وبالمناسبة .. محمد ده يبقى أبو الشخصية اللى بنتكلم عليها النهاردة ..
( أبو الحزم .. جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد )
ـــــ
فى عهد الحاجب المنصور تولى أبو الحزم منصب كاتب القصر وده كان أول منصب إدارى وسياسى ليه وبعد وفاة الحاجب المنصور إنهارت الدولة ودخل الأندلس فى دوامة الفتنة اللى كلمتكم عليها من فترة مش بعيدة .. أبو الحزم عاصر كل مراحل الفتنة .. شاف الدولة العامرية وهى بتسقط وشاف أمراء الأمويين وهما بيحاربوا بعض وشاف ولاة الأقاليم وهما بيتصارعوا على عرش الدولة بعد سقوط الأمويين وشاف الصراع بين البربر والصقالبة .. شاف كم الدماء الحرام التى سفكت من أجل عرش مهتز لدولة شبه منهارة ..
أبو الحزم تولى الوزارة فى ” عهد على بن حمود ” لكن لما شاف إنه حاد عن الطريق المستقيم عارضه وده عرضه للإعتقال ولمصادرة أمواله .. بعدها ثار أهل قرطبة ضد على بن حمود بهدف رد الأمر لبنى أمية ولكن بعد ما أساء الأمراء الأمويين السيرة وظلموا البلاد والعباد ثار الناس ضدهم وعزلوهم وأبطلوا الخلافة الأموية نهائياً وفى كل الأحداث دى كان زعيمهم هو الوزير أبو الحزم جهور ..
وأبو الحزم جهور موصلش للمكانة دى لمجرد إنه كان وزير سابق .. لأ .. ده كان راجل ذو بصيرة وذكاء وحسن تدبير بخلاف طبعاً ماضى أسرته العريق ومكانته الرفيعة بين الناس .. كل ده خلاه دايماً فى مركز الأحداث بل أجبره على التصدى ليها بحكم السن والمكانة فكان دايماً رأيه يُثقل أى كفة يوضع فيها ويأخذ بمشورته أهل الرأى والحل والعقد وتُقدم كلمته بين الناس .. راجل كان حكيم بجد وسياسى بارع مش أى كلام يعنى ..
بعد إبطال الخلافة دخل الأندلس فيما يعرف بعصر ملوك الطوائف وإنقسمت البلاد لدويلات صغيرة دون حكومة مركزية تسيطر عليها .. من ضمن الدويلات دى إمارة قرطبة اللى كانت بتضم مساحة متوسطة فى وسط وجنوب الأندلس ولكن كان ليها ثقلها بحكم إنها كانت عاصمة الدولة لقرون .. قرطبة بعد هروب أخر خلفاء الأمويين كانت بدون حكومة وبدون حاكم فعلى والدم سال فى ضواحيها أكتر من أى إمارة تانية والدنيا مضطربة والأسواق شبه واقفة والغلاء ضارب فى كل حاجة والأمن غايب والثقة منعدمة فى أى تطور إيجابى يذكر ..
فى وسط ده كله الناس بتحط ثقتها فى أبو الحزم جهور ..
إنت اللى هتبقى رئيس حكومة قرطبة ..
ـــــ
وافق الراجل طبعاً لإعتبارات كتيرة أهمها إنه مكانش فيه أكفأ منه فعلاً .. البلد كلها كانت بتتخانق مع بعض وعدم الثقة كان مخلى أهل الإمارة الواحدة ميأمنوش لبعض فما بالكم بعلاقة باقى الدويلات ببعض .. الوضع المأساوى ده هو اللى رفع قيمة أبو الحزم جهور لإن زى ما قلنا فرص النجاح كانت شبه معدومة .. عاوزين تعرفوا الراجل ده عمل إيه .. تعالوا أقولكم ..
1 – فى الزمن ده الطبيعى إن أى حد كان بيوصل للكرسى كان بينفرد بالسلطة وبيحول الدولة لدولة الحاكم الفرد واللى كان بيرفض ده كان يا بيتقتل يا بيتحبس يا بتقوم حرب واللى بيكسبها بيسلك نفس المسلك .. ابن جهور شاف ده كله واختبره قبل كده وتأكد إن ده عمره ما جاب نتيجة بل إنه هو اللى وصل البلد لحالتها اللى شرحناها .. عشان كده طبق نظام أعتقد إنه لم يطبق بالشكل ده من أيام الخلافة الراشدة .. طَبّق نظام الشورى .. كان رئيس حكومة أه لكنه أسس مجلس شورى ضم فيه صفوة الزعماء والقادة .. يتكلم بإسمهم أه لكن القرار يطلع بعد موافقة أغلبهم عليه .. مكانش بيصدر قرار أو يطلع درهم من خزائن الدولة إلا بعد إجتماعه بيهم .. وسواء عمل كده حباً منه فى الشورى أو إتقاء لمطامع القادة وتطلع نفوسهم للرئاسة ففى الحالتين ده كان ذكاء شديد منه لإن طبيعة العصر وكثرة الحروب أورثت الجميع شهوة السلطة وخلتهم دايماً فى بحث دائم عنها
2 – استهدف الأمن فاستمال زعماء البربر وعاملهم بالرفق واللين فحبوه وانصاعوا ليه وده جنب البلد فتن شديدة كان ممكن تحصل بسبب سعى البربر المزمن للسيطرة على مقاليد الأمور
3 – وزع السلاح على الأهالى والتجار سواء فى البيوت أو فى الأسواق عشان لو حصل أى إنقلاب على الحكومة تبقى الناس العادية هى أول خطوط الدفاع عن الدولة وعن نفسهم طبعاً
4 – لما تولى رئاسة الحكومة أدار البلد من مبنى الوزارة ومنتقلش لقصور الخلفاء السابقين .. نظم شئون القصر طبعاً بتعيينه للحجاب والمدبرين والخدم لكنه منتقلش ليه واستمر فى نمط معيشته السابق بل وزاد فى التواضع والقرب من الناس وده وصل للجميع إنه زاهد فى السلطة وإن هدفه إصلاحى بالأساس لإن حالة البلد مكانتش تتحمل الطمع فى أى شيء
5 – أصلح القضاء عن طريق تعيين قضاة جدد وربط لهم المرتبات المجزية وأرسى قواعد العدالة بين الناس
6 – قضى على مظاهر البذخ والإسراف وتابع تحصيل أموال الدولة وأشرف على إنفاقها بنفسه مع مجموعة من ثقاته فلم يجبى درهم بظلم ولم ينفق درهم فى باطل
7 – شجع التجارة ودعم الإستثمار عن طريق قرارين فى غاية الروعة :
* خفض الضرائب والرسوم
* وزع الأموال على التجار ” قروض حسنة ” بدون أى فوائد أو أعباء على أن تكون الأموال ديناً عليهم يستفيدون بربحها دون المساس بأصل المال على أن يحاسبوا عليه كل فترة
القرارين دول حولوا قرطبة إلى جنة إقتصادية .. تخيل أى دولة فى زماننا الحالى بتدى المستثمرين المحليين فيها قروض حسنة بصفر فايدة وإنت تفهم الوضع وقتها كان شكله إيه .. أصحاب التجارة الرائجة إزدهرت تجارتهم أكتر والمتعثرين سددوا ما عليهم وبدأوا فى التوسع وزاد الطلب على التوظيف فزادت الأجور وزاد المال فى يد الناس وده انعكس على زيادة الطلب فارتفعت أسعار العقارات وباقى الأصول وراجت التجارة أكثر وأكثر
ـــــ
تخيل معايا حجم التغيير اللى حصل فى قرطبة خلال فترة حكم أبو الحزم جهور اللى إستمرت 12 سنة بس لإنه توفى فى محرم سنة 435 هجرياً .. روشتة نجاح والله .. لو بصيتوا للنقط اللى فوق هتلاقوا الآتى :
إصلاح سياسى
إصلاح أمنى
إصلاح مجتمعى
إصلاح تشريعى
رقابة مالية صارمة
إصلاح إقتصادى
تجربة نجاح ثورية بنتحاكى بيها فى زماننا لما بنتكلم عن معجزة ” مهاتير محمد ” فى ماليزيا أو ” لى كوان يو ” فى سنغافورة أو ” لولا دا سيلفا ” فى البرازيل .. البلد تحولت إلى جنة وسط دويلات متناحرة بتقطع فى بعضها حرفياً وأى حاكم بيقدر على جاره بيقتحم حدوده وبيطرده من على عرشه .. وبالمناسبة كل الحكام المنهزمين فى الوقت ده كانت وجهتهم الأولى هى قرطبة لعلمهم المسبق بحجم التطور اللى حصل فيها ..
زى ما قلنا المال زاد مع الناس وارتاحت معيشتهم بعد سنوات طويلة من المعاناة وكان على رأسهم أبو الحزم جهور نفسه اللى تضاعفت ثروته بشكل كبير فى سنوات حكمه ولكنها كانت من مصادر مشروعة طبعاً بالإضافة لبخله الشديد وده اللى اتكلم عنه ” ابن بسام ” فى كتابه ” الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة ” لما قال فى وصف ابن جهور :
( ولم يخل مع ذلك من النظر لنفسه وترقيحه لمعيشته حتى تضاعف ثراؤه وصار لا تقع عينه على أغنى منه .. وقد حاط ذلك كله بالبخل الشديد والمنع الخالص اللذين لولاهما ما وجد عائبه فيه طعناً ولكمل لو أن بشراً يكمل )
رحم الله أبو الحزم جهور وجزاه عن عصمة دماء المسلمين ورفعة شأنهم خيراً ..
ـــــ