الجزء الخامس :
ــــــــــــــــــــــــــ
بات ( سعد بن أبى وقاص ) ليلة الهرير فى الصلاة والإبتهال إلى الله لكى يُنعم على المسلمين بالنصر .. الإحباط بدأ يدب فى صفوف الفرس لأنهم بالمقاييس الطبيعية كانوا هم الجيش الأقوى من حيث العدة والعتاد .. رغم الهزائم التى سبقت القادسية أمام المسلمين إلا أنها تظل معارك غير حاسمة .. مع كل هزيمة كان الفارسى يحدث نفسه ويقول نحن الأحق بالإنتصار وأننا لو جمعنا للمسلمين لمحوناهم بسهولة .. فى القادسية إنتفى ذلك العذر تماماً .. الآن قد جمعنا لهم مائتى ألف مقاتل وهم قرابة الثلاثون .. الآن جئنا بحدنا وحديدنا وأفيالنا والحصيلة أن قتلانا أكثر من قتلاهم وخسائرنا أعظم من خسائرهم .. الآن نحاربهم منذ ثلاثة أيام فينالون منا ولا نتمكن من ردهم ..
ذلك الإحباط ظهر جلياً فى أسلوب قتال الفرس .. قطاعات كاملة منهم تميل دون تخطيط مسبق على أحد أجنحة المسلمين فلا تستطيع أن كسر دفاعاتهم فيضطرون إلى الإرتداد للوراء على غير هدى فلا يستطيعون تنظيم صفوفهم بسهولة مما يمكن جنود المسلمين من إصطيادهم بسهولة .. كان واضحاً أن اليأس تملك منهم ولم تعد هناك يداً قوية تحكمهم أو إستراتيجية واضحة لهجومهم .. استشعر ( القعقاع بن عمرو ) ذلك فى وجوههم وأسلوب قتالهم .. جنوداً تحارب منذ أربعة أيام بلا راحة كافية دون تحقيق نصر فعلى على الأرض وبالتالى بدأ صبرهم ينفد وبدأ الخوف يظهر عليهم حتى إن المجموعة منهم كانوا يتراجعون أمام فرد أو فردين من المسلمين .. بالطبع الإجهاد نال من المسلمين أيضاً إلا أنهم كانوا يملكون عنصراً هاماً لا يتوفر للفرس .. كانوا يملكون اليقين ..
ـــــ
وقف القعقاع بين قواته صائحاً :
( إن الدَّبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم .. فاصبروا ساعة واحملوا – أى اهجموا – فإن النصر مع الصبر .. فآثروا الصبر على الجزع )
فصاح بعض القادة فى رجالهم :
( لا يكونن هؤلاء أجرأ على الموت منكم ولا أسخى نفساً عن الدنيا )
وكثرت العبارات المثيرة للحماس وسرت بين الجنود فصاح آخرون :
( أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى .. فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم )
وبدأ الجميع يتجهز للصبر على هجوم الفرس الأخير فإنهم إن عبروا منه خارت قوى المهاجمين ورد الله الكرة عليهم وما هى إلا دقائق حتى هجم الفرس بكافة قطاعاتهم مرة واحدة .. الآن وإلا لن نستطيع هزيمتهم أبداً .. بعد ساعة أو يزيد قليلاً بدأ جنود الفرس يتساقطون ومن بقى حياً فر هارباً إلى الوراء فاستغل القعقاع تراجعهم وفتح هو وفرقته ثغرة فى قلب جيشهم حتى اقتربوا من خيمة رستم وعندها تنزلت رحمات الله على المؤمنين حيث هبت ريح عاصفة حملت الرمال فى اتجاه جيش الفرس .. ريح من شدتها اقتلعت خيمة رستم وألقتها فى نهر العتيق فإذا برستم ينكشف أمام الفرقة المهاجمة ..
ـــــ
رستم لما وجد نفسه مكشوفاً دون حماية تذكر آثر الهروب ولكن أعاقته الريح والرمال والفوضى فى صفوف جيشه فاختبأ خلف بعض البغال فى معسكره حتى يتحين اللحظة المناسبة ويهرب .. وصل المسلمون إلى الخيمة وكان من بينهم واحد من أبطال بنى تميم يدعى ( هلال بن علفة التميمى ) .. بحث هلال بجوار الخيمة فلم يجد رستم وبسبب الغبار الذى سببته العاصفة كان رضى الله عنه يضرب بالسيف أى عائق قد يعيق تقدمه فأصابت أحدى ضرباته حبال كانت تمسك بأحمال على أحد البغال فسقطت على رستم فكسرت ظهره فصاح متالماً وعندها سمعه هلال وتتبع صوت أنينه حتى وجده وهو يزحف تجاه نهر العتيق محاولاً الهرب فأمسك به وقتله ثم صعد على سريره الذهبى وصاح :
( قتلت رستم ورب الكعبة )
فما أن قالها حتى ارتفعت معنويات المسلمين وخارت قوى الفرس وصاروا يفرون إلى الخلف محاولين الوصول إلى الجسر الذى نصبوه على النهر قبل أن يتم اللحاق بهم ..
تخيلوا المشهد .. الجالينوس أبرز قادة الفرس الباقين يرفع رايتهم عالياً ويلوح بها فى إشارة واضحة لجيشه بالإنسحاب والتحصن بالمدائن .. جنود الفرس تفر هاربة فيصطدم بعضهم ببعض .. بعض الجنود يخلعون دروعهم التى كانت تُثقل حركتهم وتعيقهم عن الهرب .. يقع المئات من العرب الموالون للفرس فى الأرض بينما يحاولون الفرار بسبب السلاسل التى تم ربطهم بها وكان الفرس يربطون كل عشرة من العرب الموالون لهم بالسلاسل خشية فرارهم من المعركة فإذا قتل واحد منهم أصبح لزاماً على الباقين الصمود للنهاية لإستحالة هروبهم .. آلاف الجنود الفرس يتزاحمون لعبور الجسر فيسقط المئات منهم فى النهر والباقين يرون جنود المسلمين من بعيد قادمين نحوهم كالسهام فيفرون بمحاذاة النهر محاولين إيجاد نقطة مناسبة للعبور .. ( ضرار بن الخطاب ) يُسقط راية الفرس العظمى ( دِرَفْش كابيان ) وهى راية إرتفاعها إثنا عشر ذراعاً وعرضها ثمانية أذرع صنعها الفرس من جلود النمور ورصعوها بالذهب واللؤلؤ والجواهر النفيسة وكانوا يعتقدون أنها لن تسقط أبداً لأن منذ صناعتها لم تسقط فى معركة قط .. كل ذلك يحدث وفرسان المسلمين شاهرين سيوفهم حاصدين رقاب من تطاله أيديهم .. قتل من الفرس فى تلك المعركة إجمالاً قرابة الأربعين ألفاً حسب أغلب التقديرات واستشهد من المسلمين قرابة الثمانية آلاف وخمسمائة شهيد وهو أكبر عدد بُذل من الشهداء فى فتوحات المسلمين الأولى ..
ـــــ
فى ذلك الوقت كان عمر رضى الله عنه يخرج كل يوم على أبواب المدينة يتحسس أخبار المعركة فكان ينتظر الركبان القادمين من العراق ليسألهم عن أخبار المعركة فلم يكن يحصل على إجابة شافية حتى صادف رسول ( سعد بن أبى وقاص ) فسأله عن الأخبار فرفض الرسول أن يخبره لأن التعليمات نصت على إخبار أمير المؤمنين فقط ولا أحد غيره وعمر لم يكن يعلم ذلك فتركه الرسول ومضى بفرسه داخلاً المدينة وعمر يتبعه مهرولاً ومُلحاً عليه فى السؤال والرجل يرفض حتى دخلا المدينة سوياً حتى توقف الرسول وسأل عن أمير المؤمنين فأشار الناس إلى عمر وأخبروه بأنه الذى كان يهرول خلفه منذ دخوله إلى المدينة فدهش الرسول وقال له :
( لماذا لم تخبرنى أنك أمير المؤمنين رحمك الله ؟ )
فرد عمر :
( لا عليك .. أخبرنى بالخبر )
فأخبره أن الله قد من على المسلمين بالنصر وسلمه رسالة سعد فأمسكها عمر وعيناه تذرفان وقرأ :
( أما بعد .. فإن الله نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كانوا قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل وزلزال شديد .. وقد لقوا المسلمين بعُدة لم ير الراؤون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين .. واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام وفى الفجاج .. وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان ورجال من المسلمين لا نعلمهم الله أعلم بهم .. كانوا يُدَوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دَوىَّ النحل وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود .. ولم يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم )
قرأ عمر الرسالة على الناس ثم خطب فيهم ثم مضى ينظم شئون المسلمين فقسم الغنائم وكافىء المجتهدين من المقاتلين ثم استشار كبار الصحابة فى أهل الذمة من أهل العراق وقضى فيهم ولم ينهى يومه ولم يرتاح حتى أنهى كل الأمور المتعلقة بالمعركة ..
ـــــ
المعارك مع الفرس لم تنتهى بالقادسية ولكنها كانت المعركة الأبرز فى مسيرة المسلمين لفتح بلاد فارس فبخسارتهم لتلك المعركة فتحت القرى والمدن تباعاً إما سلماً وإما حرباً حتى وصل المسلمين إلى المدائن عاصمتهم فحاصروها حتى فتحوها ثم كانت معركة جلولاء والتى انتصر فيها المسلمين وأجبروا الفرس على التراجع وخسارة مدنهم الواحدة تلو الأخرى ثم كان فتح رامهرمز وتستر ثم معركة نهاوند وغيرهم الكثير وكلما أفاء الله على المسلمين بالنصر كلما تقاطرت الغنائم على عمر فى المدينة فكان ينظر إليها ويبكى فكان ( عبد الرحمن بن عوف ) رضى الله عنه يدهش لحاله ويقول :
( ما يبكيك يا أمير المؤمنين .. فوالله إن هذا لموطن شكر )
فكان يرد ويقول :
( والله ما ذاك يبكينى .. والله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا .. ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم )
ثم إنه كان يردد دائماً حين توضع الغنائم بين يديه :
( اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك منى وأكرم عليك منى .. ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك منى وأكرم عليك منى وأعطيتنيه .. فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بى )
ـــــ
مصادر :
ـــــــــــــ
( * ) الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار – ص 111
( * ) تاريخ الطبرى – الجزء الثالث – ص 563 : 579
( * ) الكامل فى التاريخ لابن الأثير – ص 323 ( 2/479 ) : ص 325 ( 2/486 )
( * ) البداية والنهاية لابن كثير – الجزء السابع – ص 79
( * ) شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد – الجزء الثانى عشر – ص ١٤
ـــــ