ليلة سقوط الأندلس

فى مراحل الأندلس الأخيرة إسبانيا كانت تحت حكم إثنين ملوك .. ملك أراجون ( فرناندو الثانى – Fernando II de Aragón ) وملكة قشتالة ( إيزابيلا الأولى – Isabel I de Castilla ) .. الإتنين دول قالوا بدل ما إحنا متفرقين كده ما تيجى نتجوز ونضم المملكتين على بعض .. بعد مفاوضات شاقة وموافقات كنسية صعبة لإن الملكين كان فى بينهم نسبة قرابة تم جوازهم سنة 1469 ومن ساعتها وهما بيخططوا لإجلاء المسلمين من الأندلس ..

سنة 1483 كانت الأندلس كلها وقعت فى قبضة الإسبان ما عدا مملكتين .. ملقا وغرناطة .. المملكتين كان بيحكمهم بنو الأحمر والحكم كان محصور بين 3 شخصيات رئيسية .. محمد بن سعد وأخوه على بن سعد وإبنه أبو عبد الله الصغير .. أخر ملوك بنى الأحمر وأخر الحكام المسلمين فى الأندلس ..

ـــــ

فرناندو وإيزابيل قرروا الهجوم على ملقا لكن محمد بن سعد قدر يهزمهم وده رفع قدره جداً فى نفوس المسلمين وبقى هو المنقذ من وجهة نظرهم .. نظرة الناس ليه خلت إبن أخوه أبو عبد الله الصغير يحس بالغيرة وبحكم إنه شاب عديم الخبرة جهز جيش أى كلام حاول يغزو بيه مملكة قشتالة لكنه طبعاً فشل وإتهزم هزيمة منكرة وتم أسره وفضل عايش فى الأسر لمدة سنتين .. خلال السنتين دول قدر فرناندو وإيزابيل يضحكوا عليه ويوهموه إنه أحق من أبوه وعمه بحكم غرناطة وخرجوه من الأسر بشرط تبعيته ليهم مقابل إنهم يسيبوه على عرش المملكة ..

خرج أبو عبد الله من الأسر وهو شايف فى نفسه الأحقية بالملك فجمع جنوده وبدأ يحارب أهله لحد ما نجح فعلاً فى حكم غرناطة لكن بعد ما المسلمين كانوا خسروا كتير جداً مادياً وبشرياً وهما أساساً كانوا بيخسروا من سنين طويلة ..

ـــــ

سنة 1489 وبعد ما تم إنهاك المدينة تماماً وقبل ما يفكر أبو عبد الله إن ملكه إستقر بعت ( فرناندو وإيزابيل ) رسول إلى غرناطة بيطالبوه بتسليم المدينة .. الراجل للأمانة كان عارف اللى فيها ومتأكد إنه مش هيقدر يواجههم ولكن الرفض الشعبى للإستسلام أجبره على الرفض .. بعد أكتر من سنة تخرج جيوش قشتالة وأراجون ويحاصروا المدينة لمدة 9 شهور .. على المستوى الشعبى الرفض كان واضح ومسلمى المدينة إنخرطوا فى الجيش إنتظاراً للمواجهة ولكن ده لو حصل ونجح الإسبان فى دخول المدينة فأبو عبد الله الصغير هيبقى أول واحد راسه هتطير .. يعمل إيه عشان يخرج من الورطة دى ؟ .. بعد تفكير توصل لإنه يبعت رسالة لفرناندو وإيزابيل يعرفهم الوضع ويتفق على الإستسلام وإنه هيسعى لتخذيل الناس عن المواجهة لحد ما يتم التسليم الفعلى ..

فى 25 نوفمبر سنة 1491 بيتم توقيع معاهدة إستسلام غرناطة على أن تنفذ فعلياً فى معاد أقصاه شهرين ..

ـــــ

للإنصاف بنود المعاهدة كانت أغلبها فى صالح المسلمين والمصادر التاريخية مذكرتش السبب الحقيقى لده لكن الأقرب إن ده كان سيناريو مرسوم عشان عامة الناس تقبل بالإستسلام بدون قتال .. ما هو لو الناس حست إن الإسبان هيموتوهم كانوا طبيعى يواجهوهم بكل قوة دفاعاً عن نفسهم وأهلهم لكن مع بنود زى دى فالناس ممكن تأمن على نفسها وممتلكاتها .. يعنى مثلاً فى جزء من المادة الأولى للمعاهدة بيقول :

( ويعتبر أبو عبد الله الصغير وسائر قادته وجميع سكان غرناطة والبيازين وضواحيهما وقراهما وأراضيهما والقرى والأماكن التابعة للبشرات رعايا طبيعيين .. ويبقون تحت رعايتهم ودفاعهم .. وتترك لهم جميع بيوتهم وأراضيهم وعقارهم وأملاكهم حالياً ودائماً دون أن يلحق بها أى ضرر أو حيف .. وأن لا يؤخذ أى شيء منها يخصهم .. بل بالعكس .. سيتم إحترام الجميع ومساعدتهم ويلقون المعاملة الطيبة من قبل صاحبى السمو وشعبهما كخدم واتباع لهما )

بند تانى بيقول :

( يسمح صاحبا السمو وسلالتهما للملك أبى عبد الله الصغير وشعبه أن يعيشوا دائماً ضمن قانونهم – أى بممارسة الشعائر الإسلامية – دون المساس بسكناهم وجوامعهم ومناراتهم وسيأمران بالحفاظ على مواردهم وسيحاكمون بموجب قوانينهم وقضاتهم حسبما جرت عليه العادة وسيكونون موضع إحترام من قبل النصارى كما تحترم عاداتهم وتقاليدهم إلى غير حين )

مادة كمان بتقول :

( لن تصادر من المسلمين أسلحتهم أو خيولهم أو أى شيء آخر حاضراً وإلى الأبد باستثناء الذخيرة الحربية التى يجب تسليمها لصاحبى السمو )

ـــــ

أول سنة عدت تمام .. فرناندو وإيزابيل كانوا عاوزين يضمنوا عدم ثورة المسلمين ضدهم وكمان عشان يقدروا يسيطروا على كل شبر فى غرناطة لكن بعد السنة ما عدت إبتدت النية الحقيقية ليهم تظهر .. إستمالة أصحاب الأموال من المسلمين ودمجهم فى الطبقة الثرية من المجتمع المسيحى .. تقريب أصحاب النفوذ والثروة منهم من البلاط الملكى .. نشر فرق تبشيرية فى كل ركن من أركان غرناطة .. النتيجة ؟ .. صفر تقريباً .. عموم الناس محدش منهم إهتم بالتعرف على الدين المسيحى وفضلوا البقاء كمسلمين .. الحل ؟ .. رفع درجة المواجهة .. تحويل مساجد المسلمين إلى كنائس .. مسجد الطيبين ومسجد الحمراء أصبحوا كنائس ومسجد غرناطة الكبير تحول إلى كاتدرائية .. النتيجة ؟ .. صفر برضه .. الناس بقت تصلى فى الشوارع والبيوت وعادى جداً .. الحل ؟ .. رفع درجة المواجهة مرة تانية .. التضييق على المسلمين من أصل إسبانى اللى أصولهم تعود لآباء مسيحيين وإعتبارهم مرتدين .. قبضوا عليهم ورموهم فى السجون لما مرضيوش يتنصروا مرة تانية ..

يقف الموضوع عند كده ؟ .. مستحيل .. إنقلب فرناندو وإيزابيل على المعاهدة تماماً .. محاكم التفتيش كانت هى الوسيلة الأنجح فى ده .. المحاكم كانت موجودة بالفعل من سنة 1478 بعد موافقة ( البابا سيكستوس الرابع – papa Sisto IV ) عليها لكن دورها توسع جداً فى إسبانيا مع تمسك المسلمين بدينهم .. تم حظر اللغة العربية .. حظر الوقوف فى إتجاه القبلة .. منعت الصلاة .. ممنوع إرتداء الملابس العربية .. ممنوع الإحتفال بأعياد المسلمين ولو لاحظ أفراد الشرطة واحد من العرب لابس لبس جديد يوم العيد بيعدموه .. لو لاحظوا إن واحد من العرب مبياكلش فى نهار رمضان أو ممتنع عن أكل لحم الخنزير يتقبض عليه ويتعدم .. إتحظر الختان واللى كانوا بيشكوا فى إنه مسلم كانوا بيكشفوا عورته ولو لقوه مختون كانوا بيعدموه .. وطبعاً الإعدام مكانش بطريقة سهلة وسريعة .. أساليب قتل محاكم التفتيش غنية عن التعريف والمساحة لا تكفى لشرح تفاصيلها ..

تقف المحاولات لحد هنا ؟ .. أبداً .. حتى المسلمين اللى تنصروا بالإجبار فضلوا فى نظر المجتمع والبلاط الملكى خونة يجب الحذر منهم .. إتمنعوا من تملك الأسلحة .. إتفرض عليهم ضرائب مبالغ فيها أكثر من نصارى الشمال .. إتسموا ( موريسكيين ) وده مسمى فيه تحقير ليهم لإن ( مورو ) فى لغتهم يعنى مسلم ( وموريسكى ) تصغير للكلمة .. لما حاول الموريسكيين إنهم يهاجروا إتمنعوا من تغيير محل إقامتهم وبعدها إتمنعوا من السفر لبلنسية لإنها كانت أفضل أماكن الهجرة بالنسبة لهم .. إتمنعوا من العمل وبقى واجب على أى شخص يقدم على وظيفة إنه يثبت عدم وجود أقارب ليه مسلمين أو يهود لأربع أجيال متتالية ..

ـــــ

بعد أكتر من 117 سنة من التضييق والتعذيب والإعدام إتأكدت السلطات فى إسبانيا إن كل اللى تم مجابش نتيجة فعالة وإن اللى تنصروا تنصروا ظاهرياً دون إيمان حقيقى وإن الموريسكيين كانوا بيبالغوا فى إظهار عدم إلتزامهم بتعاليم المسيحية .. هما مكانوش بيصلوا ولا بيؤدوا مناسك المسلمين لكنهم فى المقابل مكانوش بيلتزموا بأى مظهر مسيحى .. الحل من وجهة نظرهم كان طرد الموريسكيين من الأندلس تماماً .. أكثر من 500 ألف شخص تم تهجيرهم قسرياً فى بلاد الشمال الإفريقى وفرنسا .. ومش بس كده .. تم نهب ومصادرة أموالهم ومنعهم من حمل أى ذهب أو فضة أو ممتلكات ثمينة وسمحوا لهم بس بحمل ثيابهم وعلى أكتافهم دون دواب .. ومش بس كده .. ده تم حرمانهم من أبناءهم اللى أعمارهم أقل من عشر سنين .. ومش بس كده .. تم تربية الأطفال دول فى الكنائس تحت رعاية مباشرة من الرهبان ولما كبروا تم معاملتهم معاملة العبيد فكانوا بيحرموهم من الزواج .. يعنى يستفيدوا منهم فى الوظائف والمهن الشاقة مع حرمانهم من التزاوج بهدف قطع نسلهم ..

ـــــ

المسلمين اللى دخلوا الأندلس سنة 92 هجرياً – 711 ميلادياً وأسسوا حضارة إستمرت تقريباً 800 سنة كانت الأندلس فيها منارة الحضارة مش بس فى أوروبا بل فى العالم كله .. جامعة قرطبة كانت أفضل جامعات العالم .. المكتبة الأموية كانت أغزر مكتبات العالم بالكتب والمؤلفات ومكانش بينافس الأندلس إلا بغداد ودمشق حواضر الخلافة العباسية فى المشرق ..

المسلمين اللى أسسوا النهضة دى وعاش فى ظل دولتهم أصحاب الشرائع الأخرى بحرية تامة دون إضطهاد حتى إن الشخص المسيحى أو اليهودى كان بيترقى فى المناصب لحد ما يشتغل داخل قصر الخلافة نفسه بدون أزمات .. المسلمين فى الأندلس إنتهى بيهم الأمر إما مجبرين على تغيير دينهم وإما يواجهوا السجن والقتل والتعذيب والتضييق فى كافة مناحى حياتهم .. واللى نجى من كل ده تم نفيه وإبعاده عن موطنه اللى ميعرفش غيره بعد حرمانه من أطفاله ..

الأندلس للأسف جرح كبير فى وجدان كل المسلمين صعب ننساه بسهولة ..

النهاردة 2 يناير هو تاريخ تسليم أبو عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة لفرناندو وإيزابيل ..

529 سنة على سقوط الأندلس ..

ـــــ

فى الصورة :
ـــــــــــــــــــ

لوحة إستسلام غرناطة للفنان الإسبانى ( فرانثيسكو براديا إى أورتيث – Francisco Pradilla y Ortiz )