ثورة نيقيا
ــــــــــــــ
الإمبراطورية الرومانية إستمرت كإمبراطورية موحدة من وقت نشأتها فى القرن الأول قبل الميلاد لحد سنة 395 ميلادياً .. فى السنة دى مات ( ثيوديسيوس الأول – I Theodosius ) بعد ما قسم إمبراطوريته بين أولاده الإثنين .. ( أركاديوس – Arcadius ) وده أخد الإمبراطورية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية .. و ( هونوريوس – Honorius ) وده أخد الإمبراطورية الغربية وعاصمتها روما ..
أباطرة الرومان كان عندهم قناعة تامة إن عشان تحكم الشعب بسلاسة لازم توفرلهم حاجتين أساسيتين .. العيش عشان ياكلوه .. والألعاب عشان يستمتعوا بيها .. وفرلهم الأكل والمسارح والسيرك وألعاب القتال وملكش دعوة بالباقى .. روما فى الغرب كان عندها ( الكولسيوم – Colosseum ) .. العبيد كانوا بيتشحنوا ليه عشان يشاركوا فى ألعاب القتال الدموية اللى كانت بتنسى الرومان أى سلبيات بيعيشوها لكن ( هونوريوس ) أول ما مسك الحكم قرر منع ألعاب القتال لدمويتها الشديدة من وجهة نظره ..
القرار ده كان أحد أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية لإن مصدر الإلهاء الأساسى إتوقف فاتجهت أنظار الناس للسياسة كنشاط بديل لشغل وقتهم .. كمان الشعوب اللى إنهزمت على إيد الإمبراطورية كانت بتلاقى فى ألعاب القتال وسيلة بديلة لرد إعتبارهم وتفريغ طاقاتهم لكن بعد ما اتلغت الألعاب إنخرطوا فى حركات تمرد ضد الإمبراطورية نفسها .. بعد 85 سنة بالظبط بتقع الإمبراطورية الغربية وبتنتهى تماماً من الوجود ..
ـــــ
فى الإمبراطورية الشرقية الوضع كان مختلف .. إحنا نمشى على الكتالوج .. لو روما عندها ( البانثيون ) و ( الكابيتول ) فاحنا عندنا كنيسة الرسل المقدسة وكاتدرائية آيا صوفيا .. لو روما عندها الكولسيوم فاحنا عندنا ( الهيبودروم – Hippodrome ) .. الهيبودروم مكان مخصص بالأساس لسباقات الخيول ويعتبر أكثر مكان مؤثر فى ثقافة الجموع لإن ده المكان اللى كان بيتنافس فيه الأبطال الرياضيين من كل مكان وده كان بيمثل وسيلة الترفيه الأولى لشعب القسطنطينية ..
الأبطال كانوا بيلبسوا ويزينوا عربياتهم بأربع ألوان .. الأزرق والأحمر والأخضر والأبيض ومع الوقت التعصب للفرق الرياضية إمتد للتعصب للألوان وإتحول النشاط الرياضى لنشاط سياسى وكل مجموعة من أصحاب التوجه الواحد دعموا وشجعوا الفرق اللى بتلبس اللون بتاعهم .. مع الوقت وبسبب تميز أصحاب اللون الأزرق والأخضر تم دمج الألوان مع بعضها وبقى عندنا حزبين رئيسيين .. حزب الزرق وحزب الخضر ..
ـــــ
سنة 518 ميلادياً .. ( جستين الأول – Justin I ) بيوصل لحكم الإمبراطورية البيزنطية وبحكم إنه وصل للحكم وسنه قرب السبعين وكمان مكانش عنده أولاد فقرر إنه يتبنى واحد من ولاد أخوه إسمه ( جستنيان – Justinian ) يعلمه أصول الحكم ويأهله عشان يكون وريث ليه من بعده ..
سنة 521 ميلادياً .. شابة إسمها ( ثيودورا – Theodora ) عندها 21 سنة أبوها شغال مدرب دببة فى سيرك القسطنطينية .. بعد وفاة أبوها اضطرت الشابة إنها تشتغل ممثلة مسرحيات خليعة .. كان منتشر وقتها نوع من الفن الإباحى بيتم عرضه مباشرة للجمهور على المسرح وثيودورا كانت واحدة من اللى بيشتغلوا فى المجال ده ..
جستنيان بيشوف ثيودورا وبيتعلق بيها وبيبقى عاوز يتجوزها رغم ماضيها الغير مشرف ورغم إنها كانت عشيقة لشخص من عامة الشعب إسمه ( هيسبولوس – Hecebolus ) وأنجبت منه طفل غير شرعى .. ده طبعاً كان مستحيل .. جوستنيان كان عضو مجلس شيوخ والقوانين وقتها كانت بتمنع أعضاء مجلس الشيوخ من الزواج بأصحاب الدرجات الدنيا فى المجتمع .. الحل كان إنه يضغط على عمه الإمبراطور عشان يلغى القانون ده وبالفعل بيلغيه وبيقدر إنه يتجوزها فى النهاية ..
ـــــ
سنة 527 ميلادياً .. يموت الإمبراطور ( جستين الأول ) وبيتولى مكانه جستنيان وعمره تقريباً 45 سنة .. حاكم نشيط وعنده خطة إصلاحات كبيرة للقسطنطينية والحقيقة هو عمل فيها نهضة عمرانية كبيرة ولكن ده كان على حساب الشعب ..
الإمبراطورية البيزنطية كانت فى حرب طويلة مع إمبراطورية الفرس والحرب دى كانت بتكلفها كتير جداً وفى نفس الوقت جستنيان عاوز ينفذ خططه التطويرية اللى هتكلف الدولة كتير برضه .. يجيب الفلوس منين ؟ .. الضرايب طبعاً .. وعشان الهدف ده عين 2 من أعوانه هما ( يوحنا الكبادوكى – John the Cappadocian ) كوزير للخزانة و ( تريبونيان – Tribonian ) على القضاء ومن ساعتها وكل يوم قانون جديد بضرايب جديدة فيشتكى الناس ويحصل شغب الشرطة تقبض عالناس ويودوهم لتريبونيان فيحكم عليهم بغرامات مبالغ فيها .. وهكذا .. خلال سنة واحدة بس ورغم الإنفاق الرهيب على الحرب وعلى التطوير إلا إن خزانة الإمبراطورية كانت عمرانة بشكل لم يسبق له مثيل ..
وضع زى ده حول المجتمع لبؤرة ملتهبة .. حزب الخضر وأنصاره من الفقراء كانوا أشد المتأثرين بسبب ظروفهم المادية وكمان لإن الدولة كانت بتضطهدهم بسبب مذهبهم المسيحى المختلف عما يؤمن به الساسة فى قصر الحكم .. حزب الزرق ورغم إن أنصاره كانوا من الطبقة الغنية إلا إن بعض النبلاء والأمراء كانوا حاسين بالإقصاء وبعضهم كان شايف إن جستنيان وعمه إغتصبوا حق ذرية الإمبراطور السابق ( أنستاسيوس – Anastasius ) فى حكم الإمبراطورية وكانوا مستنين الفرصة عشان يخلعوهم .. عوامل سياسية وإقتصادية ودينية كلها ساهمت فى تصاعد الغضب فى نفوس الرومان بمختلف طبقاتهم ..
ـــــ
بدأت الإضطرابات قبل إنطلاق الثورة بفترة وحصلت أعمال شغب نجح الحرس فى القبض على بعض المشاركين فيها فأمر جستنيان بإعدامهم عشان يخوف الباقيين ولكن 2 منهم إنقطع الحبل بيهم أثناء إعدامهم ووقعوا على الأرض .. واحد من حزب الزرق وواحد من حزب الخضر .. طبقاً للقوانين كان لازم يتم العفو عنهم ولكن جستنيان أصر على إعدامهم فثار أنصار الحزبين وإتحدوا ضد الإمبراطور رغم التنافس اللى كان بينهم ..
13 يناير سنة 532 ميلادية .. فى الوقت المعتاد للألعاب الرياضية ومع نزول الخيول لأرض السباق إتحول الهتاف من الهتاف للزرق والخضر للهتاف بإسم ( نيقيا ) أو النصر .. بالمناسبة هتلاقوا مصادر بتذكر الكلمة بإسم ( نيقا – نيكا – نيكيا ) .. كلمة واحدة بترج الهيبودروم والإمبراطور بيبص من شباك قصره اللى بيطل على حلبة السباق ومش فاهم حاجة .. فى البداية نزل أنصار الخضر لأرض الهيبودروم وبدأوا فى تكسيره وإحراقه ولحق بيهم أنصار الزرق وبدأوا فى تدمير كل شيء قدامهم ..
حاول جستنيان يسيطر على الأمر فى اليوم ده ولكن غضب الناس إستمر ولسوء حظه فى الوقت ده مكانش فى قوات كفاية جوه العاصمة لإن غالبية الجيش كان منخرط فى حرب الفرس .. وبدأت المطالب تعلى شوية بشوية .. إقالة يوحنا الكبادوكى .. إقالة تريبونيان .. مع تدمير للممتلكات والبيوت والقصور والأماكن المهمة وعلى رأسها كنيسة آيا صوفيا ..
ـــــ
بعد يومين الحظ إبتسم شوية لجوستنيان لإن جزء من جيشه رجع على القسطنطينية فتصور إنه هيقضى على الثورة دى ولكن الناس كانوا متحدين جداً والجيش مقدرش يقف قصادهم واضطر إنه يتراجع لحماية القصر .. فى الوقت ده إرتفعت مطالب الناس للدرجة القصوى وهى عزل الإمبراطور نفسه وبالفعل أجبروا ( هيباتيوس – Hypatius ) إبن شقيق الإمبراطور السابق أنستاسيوس على الإنضمام للثورة وراحوا بيه على القصر الإمبراطورى ..
خرج جستنيان من شرفة القصر وحاول إنه يهدى الناس بموافقته على طلباتهم ولكن الثورة خلاص كانت وصلت لذروتها فخد رأى كل اللى حواليه والكل أجمع إنه لازم ياخد كل اللى يقدر عليه فى أحد السفن ويهرب .. كلهم أجمعوا على كده ما عدا شخص واحد .. ( ثيودورا )
ـــــ
ثيودورا لما لقت جوزها خايف ومش عارف يتصرف إزاى ومفيش واحد من القادة بتوعه قدمله حل وقفت وسطهم وقالت الآتى :
( فى مثل هذه الظروف التى نواجهها ليس لدينا الوقت لمناقشة هل على المرأة أن تصمت إذا ما تحدث الرجال أم لا .. ورأيى أن هذا الوقت ليس مناسباً للفرار حتى لو فى ذلك الأمان كله فليس هناك شيء مضمون .. وكلنا يعلم أن لكل مولود يوم سيودع فيه الحياة لكن ليس من اللائق على من أصبح إمبراطوراً أن يُسمى بعد ذلك هارباً وإنى لن أتخلى أبداً عن العباءة الامبراطورية .. والأن إن شئت أن تنجو بنفسك فليس ذلك صعباً ولا شيء يمنعك .. فالمال وفير والبحر وسيع والسفن كثيرة على الشاطئ .. أما أنا فإنى لن أهرب وسأتمسك بالقول القديم الذى يقول أن العباءة الامبراطورية هى خير الأكفان )
جستنيان ومعاونيه لما سمعوا كلامها إتكسفوا جداً وعلى طول غيروا رأيهم وبدأوا يجهزوا خطة يقضوا بيها على الثورة ..
ـــــ
الخطة دارت حوالين محور واحد .. طالما مش قادرين نواجه الناس وهما متحدين يبقى لازم نفرقهم الأول .. لو إختلفوا مع بعض هنقدر ببساطة ننفرد بفصيل واحد منهم ونقضى عليه ..
حزب الزرق كان حزب أغنياء الشعب زى ما قلنا .. أمراء ونبلاء وتجار وأصحاب مصالح كبيرة فى الإمبراطورية .. أمر جستنيان واحد من قادته إسمه ( نارسيس – Narses ) إنه يتفاوض مع قادة الحزب ويهاديهم بهدايا نفيسة ويوعدهم بوعود مستقبلية فى صالحهم فى حالة تخليهم عن مساندة الخضر فى الميدان .. الناس دى بحكم إنهم كانوا رجال أعمال فحسبوها بمنطق التجار وهنكسب إيه وهنخسر إيه وشافوا إن ( هيباتيوس ) اللى الحشود بتنادى بتنصيبه إمبراطور لو وصل للحكم مش هيقدملهم اللى ( جوستنيان ) بيعرضه عليهم فوافقوا وإنسحبوا من الميدان ومعاهم كام ألف من أعوانهم بعد ما أعلنوا ده للناس علانية ..
إعلان الإنسحاب على الملأ أصاب باقى المتظاهرين بالإحباط وخلال دقايق إتقفلت عليهم أبواب الهيبودروم ودخل جنود الإمبراطورية بقيادة القادة ( بليزاريوس – Belisarius ) و ( موندوس – Mundus ) وقتلوا كل اللى فضلوا جوه .. ضحايا تم تقديرهم بين 30 ألف و 40 ألف إتقتلوا خلال ساعتين بالكتير ..
ـــــ
بقتل الأعداد دى تم القضاء على ثورة نيقيا وإستتبت الأمور لجوستنيان وحكم الإمبراطورية ل 33 سنة بعد الثورة وتعاظم دور ثيودورا وبدأت تتدخل فى كل كبيرة وصغيرة فى الإمبراطورية ولكن للأمانة كانت رؤيتها دايماً صائبة وكانت سبب مباشر فى إستمرار زوجها على عرش الإمبراطورية لحد ما توفت سنة 548 ميلادية وقيل إن جستنيان بكى عليها كما لم يبكى طوال عمره ..
ـــــ