الصراع العثمانى المملوكى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الخامس :
ـــــــــــــــــــــــــ
أى محاولة للصلح دلوقت تعتبر عبث .. سليم بيجهز جيشه و الغورى مكانش قدامه غير إقناع المماليك بالإتحاد .. لكن إزاى و المماليك كلهم شايلين من بعض .. المماليك كانوا عبارة عن قسمين .. الأول هما ( المماليك القرانصة ) و دول اللى إشتراهم السلاطين اللى قبل الغورى و حتى دول كانوا متقسمين لأحزاب و كل حزب منهم تابع لقائد عسكرى شكل و كلهم متربصين ببعض .. الثانى هما ( المماليك الجلبان ) و دول اللى إشتراهم الغورى بنفسه و طبعاً إشتراهم عشان كان خايف من تآمر القرانصة ضده ..
الوضع وقتها كان كله شك و ريبة و صراع دفين على السلطة الوحيد اللى كان مستفيد منه هو قنصوة الغورى اللى طبق مقولة ( فرق تسد ) فى التعامل مع المماليك .. خلق بينهم العداوة عشان يضمن عدم إتحادهم ضده و إنقلابهم عليه و فوق ده حمى نفسه بالجلبان اللى مجرد وجودهم إتسبب فى زيادة الحقد بين المماليك و بعضها .. 15 سنة كانت الدنيا ماشية لإن التهديد كان نسبياً بعيد أما دلوقت فالتهديد على أبواب الشام ..
ـــــ
الغورى حب يستطلع أخبار العثمانيين فأمر واحد من قادة المماليك إسمه ( كرتباى ) و قاله يروح لأطراف الشام يشوف الدنيا فيها إيه .. بالفعل بيتحرك كرتباى من حلب و بيروح لمدينة قيسارية و هناك بيتفاجىء بإن الأهالى قفلوا بواباتها .. و مش بس كده .. ده انضموا كمان للعثمانيين و استعدوا لقتال المماليك .. كرتباى عرف وقتها إن العثمانيين قربوا على مدينة عنتاب و عرف إن أهلها إستقبلوهم بترحاب فقرر إنه يرجع هو و رجالته للغورى عشان يعرفوه اللى حصل .. طبعاً أخبار زى دى خوفت الغورى جداً لإنه إتأكد إن أفعال المماليك من سلب و نهب قلبت الناس ضدهم و خلتهم يبقوا فى صف سليم و ده معناه إنه فقد الظهير الشعبى فى المناطق دى و مبقاش باقيله غير المماليك اللى هما منقسمين أساساً ..
جمع الغورى قادة المماليك و حلفهم على المصحف إنهم يتحدوا فى مواجهة الخطر العثمانى و إنهم ميخونوش بعض و رغم إن الكل تعاهد على كده إلا إن العهد ده كان صورى و فضلت نفوسهم شايلة من بعض .. إبن زنبل الرمال بيوصف المماليك لما عسكروا فى مرج دابق قبل المعركة بيوم فقال :
( و باتوا تلك الليلة على غير حرب و لكن لم يهنأ لأحد منهم نوم من مكر بعضهم لبعض )
فى يوم 23 رجب سنة 921 هجرياً إصطف جيش المماليك فى إنتظار العثمانيين و الوصف هنا لازال لابن زنبل اللى قال :
( فلما اتضح النهار ركبوا كالبحر الزاخر فإذا صفوف العثمانية قد بانت صفاً بعد صف خارجاً من الوصف .. و الأعلام الملونة من اليسار و الميمنة و هم سائرون كالبحر السيال و المحيط الميال و قد رتبوا الصف من كل طرف .. فإذا طير من الطرف الكبير الذى فيه السلطان سليم مدفع كبير كالبرق الخاطف و الرعد القاصف تزلزلت منه تلك الصحراء و طلع دخان كالجبال الزرقاء )
ـــــ
العثمانيين كانوا أكتر فى العدد و التسليح من المماليك بشكل واضح لدرجة إن طلقة واحدة من مدافعهم كانت بتقتل من 50 ل 100 فرد من جيش المماليك .. المماليك كانوا شجعان فعلاً و مقاتلين على أعلى طراز لكن عددهم أولاً كان أقل و ثانياً مكانوش متحدين .. قنصوة الغورى اللى اتسبب بغباءه فى كل ده مكتفاش بكده .. الباشا قرر إن اللى هيحارب هما المماليك القرانصة بس و خلى 13 ألف مملوك من الجلبان واقفين جنبه و كان هدفه من كده إن العثمانيين يخلصوا على أكبر عدد ممكن من القرانصة و بالتالى يستريح من تهديدهم ليه .. و رغم إن المماليك أظهروا جرأة و شجاعة كبيرة فى المعركة إلا إن التفوق العددى للعثمانيين كان عامل حاسم .. يقال إن عدد المماليك اللى شاركوا فى القتال بشكل فعلى كان حوالى ألفين جندى بس .. أما الباقيين فكانوا إما جلبان أو ضمن الفرق الى تخاذلت فى الحرب تحت قيادة ( خاير بك ) و ( جان بِردى الغزالى ) اللى كانوا متحالفين مع سليم الأول فى السر ..
وسط المعمعة دى يروح للغورى عدد من أمراء المماليك و يقولوله :
( نحن نقاتل بأنفسنا مع النار و أنت واقف تنظر إلينا كالعين الشامتة ما تأمر أحداً من مماليكك يخرج للميدان )
فكان الغورى يقولهم إنهم أهل الحرب و إن الجلبان أقل منهم فى القدرة القتالية إلى أخر الكلام ده .. استمر الوضع بالشكل ده لحد ما راحله ( سودون العجمى ) و ده واحد من أكبر قادة المماليك و قاله :
( يا مولاى السلطان .. أين جلبانك .. أين خاصيتك .. هكذا عملت بنا و لازلت قائماً فى حظ نفسك حتى أهلكت نفسك و أهلكتنا معك .. و لكن القيامة تجمع بيننا و بينك و سنقف بين يدى مولانا سبحانه و تعالى يحكم بيننا بالعدل و لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم )
ـــــ
الإنهيار الحقيقى للمماليك محصلش إلا لما خاير بك و جان بردى الغزالى تراجعوا بجنودهم فجأة و بدأ خاير بك ينادى بأعلى صوته و يقول :
( الفرار .. الفرار .. فإن السلطان سليماً أحاط بكم و قتل الغورى و الكسرة علينا )
نداء زى ده خلى جيش المماليك يتفرق فى دقايق .. الجلبان اللى كانوا بعيد عن الغورى سابوه و هربوا و القرانصة هربوا بعد ما شافوا غالبية الجيش بتتراجع و سايباهم لوحدهم .. وسط التراجع السريع ده يقف الغورى و ينادى على جنوده فى يأس :
( يا أغوات .. الشجاعة .. صبر ساعة )
شجاعة إيه بقى .. بعد إيه يا عم غورى .. الجيش كله كان بيتراجع قدام العثمانيين و محدش منهم وقف لثانية واحدة .. وسط التراجع ده بيقع الغورى من على حصانه و بيدهسه الجنود و خيولهم و بسبب سنه الكبير مبيستحملش الدهس و بيموت .. مجموعة من المماليك إكتشفوا وفاته و خافوا إن سليم الأول يقطع راسه و يطوف بيها فى البلاد و بكده ينكسر المماليك نهائياً فاضطروا إنهم يقطعوا راسه و يرموها فى أحد الأبيار عشان محدش يتعرف على جثته .. دى كانت نهاية الغورى اللى كان حريص على إستمرار ملكه لحد أخر لحظة فى حياته حتى لو على حساب جنوده ..
ـــــ
مرج دابق مكنتش معركة حقيقية على الرغم من التضحيات اللى قام بيها بعض قادة المماليك .. معركة غلفها و شكل تفاصيلها الخيانة و الحسد و الأنانية .. سلطان عنده 75 سنة و لسه ميت على الدنيا و مماليك مختلفين و طمعانين فى منصب بيزول فعلياً قدام عنيهم و قادة خونة بينهزموا قاصدين طمعاً فى مناصب مستقبلية .. المماليك خسروا كتير أوى فى المعركة دى .. خسروا جنود .. خسروا كبرياء .. خسروا فلوس كتير جداً لإن الغورى بجهله بعت جاب معاه فى الحملة دى 100 قنطار من الدنانير الذهبية و 200 قنطار من الدنانير الفضية و ده بخلاف التحف و الأقمشة و الغنائم اللى جمعها السلاطين اللى قبل منه لإنه كان متخيل إنه هيهزم سليم و يكمل وراه لحد ما يستولى منه على إسلامبول .. المماليك أيوه كانوا بيقعوا و أيوه كانوا فى نهاية عمر دولتهم لكن أنا لو هحمل حد مسئولية سقوطهم فهحملها للغورى بنسبة لا تقل عن 75 % .. الراجل ده أساء إدارة الملف السياسى و الإقتصادى بشكل مرعب الصراحة ..
الوضع بعد الهزيمة مختلفش كتير .. المماليك إتخانقوا على منصب السلطان قبل حتى ما يسيبوا الشام .. ( جان بردى الغزالى ) كان عاوز المنصب لنفسه لكن الباقيين إختلفوا عليه .. واحد تانى إسمه ( علان الدوادار ) قالهم نرجع مصر و هناك نشوف هنعمل إيه و كان هدفه إنه يسلطن نفسه هناك .. أما الجلبان فخافوا على مصالحهم و قالوا نسلطن ( محمد إبن الغورى ) رغم إنه كان لسه صغير فى السن و ده لإنه الوحيد اللى هيحفظلهم إمتيازاتهم بعد وفاة أبوه .. الإختلاف فضل مستمر بينهم لحد ما وصلوا مصر و هناك إختاروا الشخص اللى هيكون محور كلامنا فى الأجزاء اللى جاية ..
( الأشرف طومان باى الدوادار )
ـــــ
طومان باى مملوك شركسى إشتراه قنصوة الغورى فى زمن السلطان قايتباى و قعد فترة مملوك شبه مهمش لحد ما قنصوة الغورى وصل لمنصب السلطان و بوصوله إبتدى يترقى فى المناصب بشكل سريع و ده لسببين .. أولاً لإن الغورى هو اللى اشتراه و رباه و ثانياً لإنه يبقى إبن أخوه .. وتيرة الترقيات فضلت مستمرة لحد ما وصل إنه يبقى ( نائب الغيبة ) يعنى يبقى بديل للسلطان فى حالة غيابه لأى سبب و كان هو المسئول عن إدارة الأمور فى مصر وقت خروج المماليك لحلب ..
الحقيقة طومان باى مكانش مملوك فذ أوى و كان له دقات نقص كتير زى مساهمته فى الإنقلاب على أكتر من سلطان زى ( الظاهر قنصوة ) و ( الأشرف جانبلاط ) و ( العادل طومان باى ) و حتى على المستوى الإدارى كان بيلاقى صعوبات كتير فى التعامل مع الزينى بركات اللى كان شبه بيدير الأمور دون الرجوع ليه فى حاجة إلا إن ده و للأمانة ميعتبرش إنتقاصاً منه ..
يعنى مثلاً بخصوص جزئية مشاركته فى الإنقلاب على السلاطين فزى ما قلنا ده كان زمن إنحطاط المماليك و الدسائس و المؤامرات كانت تحاك بشكل شبه يومى و إن مكنتش هتشارك فى واحدة منها فانت أكيد هتكون أحد ضحاياها .. يعنى الراجل هنا كان بيتعامل بأدبيات زمنه و لو معملش كده كان هيروح فى الرجلين ..
أما جزئية ضعفه الإدارى أمام الزينى بركات فدى كانت ترجع لتضارب الإختصاصات بحكم إن الزينى بركات كان مُحتسب الدولة و الغورى كان مديله صلاحيات كتيرة جداً تضاربت مع صلاحيات طومان باى .. كمان فارق الخبرة الإدارية كان لصالح الزينى بركات اللى قدر يكون شبكة مهولة من البصاصين مكنته من معرفة أدق تفاصيل الدولة فى حين إن طومان باى مكنش له ضهر يتسند عليه غير عمه الغورى و شبكة علاقاته كانت أضعف كتير من اللى بيملكها الزينى ..
و رغم كل اللى فات فإن الإمانة تقتضى إننا نقول إن طومان باى كان محبوب من الناس لإنه كان قريب من المصريين و كانت قراراته دايماً بتصب فى صالحهم و ده استمر حتى بعد ما بقى سلطان فمنع عنهم تجبر المماليك و وعدهم بالأمان على أموالهم و أنفسهم و ده بخلاف إنه كان كريم و مضياف و عطوف على الفقراء و المساكين .. كل العوامل دى رفعت من شأن طومان باى فى عيون الناس و نظرتهم ليه إختلفت عن نظرتهم تجاه غالبية المماليك اللى تجبروا عليهم و أذوهم بشكل كبير ..
ـــــ
سليم فى طريقه للقاهرة ..
و طومان باى لازم يستعد ..
ـــــ